مواطنة لا وحدة وطنية

وبعد ثورة 2011 وعندما ظهر حزب الحرية والعدالة تصورت أن هناك طفرة حدثت في وعي جماعة الإخوان، وجعلتهم يبعدون عن خلط الدين بالسياسة حتى أنني فكرت جديا في العمل في جريدتهم!

في مقالي اليوم أريد أن أتحدث بكلمات صريحة حول رؤيتي للوحدة الوطنية، وأتمنى لو كنت أستطيع أن أخذ عهدا على أصدقائي القراء بأن نتجنب شر القتال من منطلق أن الاختلاف سنة الحياة..
ما علينا، بصرف النظر عن عهدكم من عدمه سأقول كلماتي.

أبدأ باعتراف بأنني مثل كل المصريين مارست التشدق بعبارة الوحدة الوطنية كعنصر وحيد لتوحد الأمة في مواجهة كل ما يلم بها من مشكلات ومصائب، ولكني كنت أمارسها في نطاق ضيق جدا..
لم أكن مقتنعا أبدا بهذه العبارة ولا بعبارة يحيا الهلال مع الصليب ولا عنصري الأمة ولا كل العبارات على هذه الشاكلة والتي لم يعرفها أي شعب في العالم سوى الشعب المصري رغم تعدد الطوائف في كثير من البلدان..
وحتى غاندي عندما أراد أن يواجه الاحتلال البريطاني في وطنه لم يرفع يحيا الهندوس مع المسلمين أو عاش البوذي مع السيخي، فقد اقتحم غاندي المشكلة مباشرة وتعامل مع تناقض الاستعمار مع مصالح وحياة المواطن الهندي، وحتى في لحظات تعرضه لبعض المشكلات بين الطوائف كان يتعامل معها من أرضية المواطنة للجميع.

الطائفية أداة للهيمنة

معظم الحكومات التي تعاقبت على مصر كانت تجد في تغذية الطائفية أداة للهيمنة والسيطرة وخاصة أنها كانت حكومات تفتقر إلى القدرة على إيجاد صلات طبيعية بينها وبين الشعب بحكم أنها كانت إما حكومات فاسدة أو قمعية أو عسكرية ..
ولهذه العلاقة الوحيدة بينها وبين الشعب لا تكن إلا من خلال أزمات مفتعلة أو غير مفتعلة يتم تغذيتها ليصبح وجود هذه الحكومات ضرورة بغض النظر عن مصداقيتها أو شعبيتها..
 وهذا ما يفسر العلاقة بين ازدياد التوتر بين الشعب والدولة في أواخر حكم مبارك وارتفاع حدة الأحداث الطائفية وتفجير الكنائس والمشكلات الطائفية بين الشعب ونشر التخلف العقائدي بشكل غير مباشر.

وبتركيز بسيط في تفاصيل الحياة اليومية التي نعيشها نجد أن الخلاف الطائفي لا يخرج عن حدود طبقات معينة ولا وجود له في الطبقات العليا ذات المصالح المشتركة والمتشابكة  
فمن الصعب وربما من المحال أن نسمع أن أزمة طائفية بين اثنين من رجال الأعمال يشتركان في مشروعات استغلال الشعب، وهو ما يعني أنه خلاف غير أصيل وتتقدمه مصالح كثيرة أو خلاف مصطنع لأسباب كثيرة ومنها ما ذكرته في مقدمة المقال.

تحضرني واقعة شخصية طريفة تتعلق بهذا الأمر، كنت بصدد شراء شقة في عقار يملكه مسيحي ومسلم مشاركة وأثناء إجراءات البيع تعرضنا لتفاصيل كثيرة على مدار مدة زمنية كان كل منهما خلالها يحاول أن يضمني إلى معسكر وعيه الطائفي ويستقطبني لمشكلاته الخلافية مع الآخر..
وكان المسلم يوسوس لي بأن شريكه نصراني كافر ونحن فئة واحدة (وملناش غير بعض)، وعلى الجانب الآخر كان المسيحي يوسوس بدوره لي بأنني صحفي مثقف وأن الآخر متخلف وطائفي ومتعصب وجاهل..
وفي لحظة تدخل الشيطان بخبرته ووسوس لي بأن أفعل مثل الحكومة وأستغل هذا الخلاف الطائفي لتحقيق مصالحي..
ورغم أنني لم أفعلها إلا أنه في يوم اشتبكت معهما في خلاف مالي يخص كلاهما؛ ففوجئت ليس فقط بوحدتهما الوطنية وإنما في تطابق بالموقف وتحالف هجومي شرس، واختفى تعصبهما العقائدي وبدا كأنهما بلا دين من الأساس!! حتى شعرت بأنني أمام محاربين من العصر الحجري، إنها المصالح التي لا بد أن تتصالح!!

الاستقلال التام أو الموت الزؤام

عندما خرج الشعب المصري مصطفا وراء سعد زغلول في مواجهة الإنجليز، لم تكن تفاصيل الحياة الاجتماعية وقتها تعرف التميز الديني حتى أن كثيرا من الأشخاص كانوا يتصادقون سنوات طويلة دون أن يدروا أو يعلموا أو حتى يهتموا بمعرفة ديانة بعض..
 هكذا كانت الحياة مصر، وفي تقديري أن شعار يحيا الهلال مع الصليب الذي رفعته الثورة في مواجهة الإنجليز رغم سمعته التاريخية الطيبة إلا أنه كان بداية المصيبة الكارثية التي ألمت بمصر، فالشعار بشكل غير مباشر أكد وجود عنصرين أو فئتين مختلفتين حتى لو اتفقا..
فهم متفقون اليوم ومن الطبيعي احتمال اختلافهما غدا طالما هما عنصران مختلفان.
 وفي هذه الفترة شهد الشارع المصري ملامح احتقانات طائفية لم يعرفها منذ أزمنة بعيدة..
هنا أيضا أذكر رواية طريفة حول هذا الموضوع إذ قام مسيحي برفع دعوى قضائية ضد مسلم سب له الدين، فقام المسلم بتوكيل مكرم عبيد المحامي المسيحي المشهور للدفاع عنه، وفي المحكمة تناقش مكرم عبيد مع القاضي بأنه طالما الدين عند الله الإسلام فلا وجود للدين المسيحي وبالتالي فلا يوجد كيان وقع عليه السب..
فسأله القاضي هل أنت مقتنع بهذا الكلام فأجاب مكرم أنا أناقشك بما أنت مقتنع به، فضحك القاضي وأصدر حكمه بالبراءة..
 ورغم إدانتي الشديدة لسب أي عقيدة دينية أو غير دينية إلا أنني رأيت في موقف مكرم عبيد رسالة للقاضي وللمجتمع بأن الخلاف العقائدي ليس موضوعا خلافيا بين المصريين وحقوقهم المتساوية في المواطنة.

خرج المصريون يهتفون في مواجهة الإنجليز بشعار رئيسي يحيا الهلال مع الصليب، والغريب أن يكون الشعار الثانوي أو التالي هو الاستقلال التام أو الموت الزؤام، هذا هو الوضع الكارثي الذي ورثه الشعب المصري وهو تقديم موضوع الاختلاف الطائفي في المقدمة سواء بشكل إيجابي أو سلبي، وكان الأولى بالهتافات في شوارع مصر آنذاك هي هتافات الاستقلال.

عندما قامت ثورة العبيد قبل الميلاد كانت عناصرها من العبيد من كل الطوائف ملونين وأسرى حرب وأمراء مهزومين، وعندما توحدوا لمواجهة عبودية الأسر كان شعارهم الحرية والمساواة ولم نسمع يحيا الأسود مع الأبيض أو يحيا الأسير مع الأمير..
لم يسمح الثوار بأن تتقدم قضايا على قضيتهم الرئيسية ولو حدث لكانت بداية الهزيمة، وعندما قامت ثورة الشعب الروسي ضد الحكم القيصري كان الشعب ينقسم طائفيا وعنصريا انقسامات عديدة وخرج الشعب الروسي بكل هذه الانقسامات ينادي بسقوط القيصر ولم نسمع يحيا المسلم مع المسيحي وكانت الديانتان منتشرتين بين الثوار.

في بداية الألفية الثانية كنت أنتمي للفكر اليساري وما زالت وكنت أعمل في جريدة كانت سياستها الرئيسية العداء مع جماعة الإخوان المسلمين إلى حد نفي وجودها من الأساس..
وكنت ضد هذا الموقف ليس من منطلق موافقتي لفكر الجماعة وإنما من منطلق أنه ليس من حق أحد نفي الآخر، وإلا سيصبح هذا الحق تبادلياً وتحدث كارثة في مصر لن يستفيد منها سوى نظام الحكم الفاسد..
ولكني طوال الوقت كنت أحمل قناعة تجعلني في ارتباك وتناقض فقد كنت غير مستوعب إطلاقا لوجود جماعة تمارس السياسة تميز نفسها دينيا، وكنت أيضا أكره سلوك التسامح الطائفي المفتعل في ذلك حتى أنني كنت أنزعج من محام مسيحي يقوم بطبع إمساكيات هدية للمسلمين في رمضان، أو شيخ مسلم يفطر في رمضان داخل كنيسة..
 كنت أرى أن هذه المشاهد المفتعلة السخيفة تكرس للطائفية فنحن لسنا بحاجة لهذه العاطفة المشوهة فما يجمعنا أننا مصريون في وطن واحد والعقيدة والدين أمر شخصي.

المواطنة

وبعد ثورة 2011 وعندما ظهر حزب الحرية والعدالة تصورت أن هناك طفرة حدثت في وعي جماعة الإخوان، وجعلتهم يبعدون عن خلط الدين بالسياسة حتى أنني فكرت جديا في العمل في الجريدة التي تحمل نفس الاسم لولا أنهم رفضوا..
والحمد لله فقد تبين لي بعد ذلك أن تغيير الاسم كان أمرا شكليا وظل مضمون خلط الدين بالسياسة ونبذ المواطنة محيط بالجماعة حتى أوقعها وأوقعنا وأوقع بأول فرصة للحكم المدني في العصر الحديث..
فمازلنا جميعا نحمل تراث الوضع الكارثي الذي فُرض علينا فترة الاحتلال الإنجليزي، وهو تداخل العقيدة مع الحقوق المدنية ومصالح لوطن، سواء كانت هلال الإسلام أو صليب المسيحية، وهو ما يغذيه الحكم الفاشي العسكري بصورة ظاهرها مثاليا وباطنها يحمل خبث الدولة عميقة الفساد، فمجرد وجود التقسيم الطائفي، حتى لو في صورة التعايش السلمي، فهو صمام الأمان لاستمرار الحكم القمعي الغاشم.

ما يحتاجه المصريون الآن هو أن تكون العقيدة الدينية لكل منهم دافعا شخصيا لموقف أخلاقي وضمير مستيقظ فقط، لا أن تكون عقيدتهم الدينية مظهرا من مظاهر التميز وهذا لن يحدث إلا في ظل تفعيل مبدأ المواطنة التي تضع الجميع على قدم المساواة دون الالتفات سلبا أو إيجابا للخلافات العقائدية.

في الوطن العقيدة أمر شخصي والحقوق أمر عام. ما يجمعنا في الوطن هو شعار تحيا مصر وليس شعار يحيا الهلال مع الصليب ولا شعار يحيا المنوفي مع الصعيدي!

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه