من يناير 1977 ليناير 2020: دروس مستفادة (3/3)

 

في الحلقتين السابقتين ومن خلال استعراض الحالة السياسية في الشارع المصري منذ العام 1952 والممهدات لتصاعد الانتفاضات الجماهيرية في السبعينيات، تكشفنا عدة حقائق حول العلاقة بين ثلاثة أطراف الأول النظام الحاكم العسكري والثاني الجماهير أو الشعب، والثالث النخب التي تمثل المعارضة والتي وقفت مذبذبة بين الطرف الأول والطرف الثاني.

وتبين لنا عدة حقائق منها:

إن النظام العسكري الحاكم في مصر يستهدف البقاء الأزلي في الحكم، مستبعدا تماما فكرة الحكم المدني، واستخدامه لأدوات الحكم المدني من انتخابات وحريات وديمقراطية ما هي إلا واجهة يخفي وراءها طبيعته الفاشية.

–   ظهر بوضوح أن انهيار الحياة السياسية في مصر وهزال حركة المعارضة وضعف تأثير الجماهير على اتجاهات الحكم، ليس سببه بطش النظام الحاكم الفاشي فقط، وإنما السبب الرئيسي هو ضعف حركة المعارضة وضعف الوعي الشعبي بالمعنى الشامل للديمقراطية والحريات، وتقديم المصالح الأيدولوجية ورؤى الجماعات الحزبية على مصالح الوطن، فتحول الصراع بين النظام والمعارضة إلى صراع أشبه بصراع الفرق الرياضية، والفائز تصفق له الجماهير من دون حصولها على أي عائد من هذا الصراع.

وتعرضنا لهيمنة سلطة 1952 على الحياة السياسية وإقصاء كل الاتجاهات المدنية، وعودة حركة المعارضة للشارع بفعل تحركات الجماهير عام1968 عقب هزيمة مصر أمام الكيان الصهيوني عام 1967، للاحتجاج على نتائج محاكمة الضباط المسؤولين عن الهزيمة، وبدء ظهور النخب والاتجاهات اليسارية في السبعينيات ثم ظهور اتجاهات الإسلام السياسي بعد أن استدعاهم أنور السادات لمواجهة تصاعد حركة اليسار، إلا أنهم خرجوا عن الاتفاق والخط المرسوم لهم، وتعرضنا أيضا لعودة التيار الليبرالي ممثلا في حزب الوفد، وارتباك نظام السادات بسبب عوامل عديدة تعرضنا له في الجزأين السابقين وانتهاء الأمر باغتياله في 6 من أكتوبر (تشرين الأول) 1981.

حسني مبارك والتحالف النخبوي

تولى حسني مبارك رئاسة مصر عقب اغتيال أنور السادات أثناء استعراض عسكري احتفالا بنصر أكتوبر، وفي توقيت وصل فيه «السادات» إلى أعلى مستويات الكبر والجبروت حيث اعتقل معظم رموز الاتجاهات السياسية والدينية المختلفة والقى بهم في السجون، واستخدم عبارات مهينة ومذلة في حديثه عن المعارضين ومنها ما قاله عن الشيخ المحلاوي الذي يمثل زعامة دينية شعبية مهمة في الإسكندرية، «أهو مرمي زي الكلب في السجن».

وبصرف النظر عن كيفية انتقال الحكم لحسني مبارك بأسلوب لم يكن للشعب ولا لحركة المعارضة أي دور فيه، فهذا موضوع له حديث آخر

لم يبذل «مبارك» أي جهد في استيعاب حركة المعارضة الرسمية وجذبها تجاهه، بل أيضا استطاع جذب جزء غير بسيط من حركة معارضة الشارع بعد أن افتتح فترة حكمه بالإفراج عن المعتقلين في السجون، وتجييش قوى المجتمع في مواجهة ما أطلق عليه خطر الإرهاب الذي يواجه مصر بعد اغتيال رئيس الجمهورية، كما أن أحزاب المعارضة الشرعية كانت مهيأة للدور الذي رسمه لها «السادات» منذ إعلانها عام 1976، ولكنه لم يتمه لارتباك المشهد وصدمته للمجتمع باتفاقية السلام مع إسرائيل وبسياسات اقتصادية مفاجئة، كما سبق وأن ذكرت، فهرولت هذه التشكيلات المرتدية ثوب المعارضة تجاه أحضان النظام الجديد واستقبلها النظام الحاكم بأذرع مفتوحة ليشكلوا أغرب تحالف في تاريخ الحياة السياسية للسيطرة على حركة الشارع وتحويل المعارضة إلى سند داعم للسلطة والنظام العسكري الحاكم تحت مسمى المعارضة البناءة ومطاردة المعارضة الجذرية في الشارع والتي أطلقوا عليها المعارضة الهدامة.

تمييع الصراع

على عكس سياسة السادات الذي عمق الصراع بين المجتمع والمعارضة من جهة والنظام من جهة أخرى، استطاعت سياسة الحقبة المباركية استيعاب هذا الصراع وتميعه، بل، ونقل الصراع إلى معسكر فرق المعارضة ونفسها، وهو ما ضمن استمرار النظام في الحكم 30 عاما، حتى اضمحل بفعل الزمن وتحول التغيير من رغبة شعبية إلى ضرورة فرضت نفسها على مجتمع ربما لم يكن مستعدا بعد للتغيير فتلقفته أيادي جيل جديد من أجيال السلطة الفاشية استفادت من الواقع أكثر مما استفادته قوى المعارضة والشعب.

ونظرا لطول هذه الفترة فسوف أتعرض فقط لملامحها السياسية والمجتمعية.

كما ذكرت التفت أحزاب المعارضة الرسمية والمعترف بها حول النظام الجديد لمواجهة هدف جاهز التصنيع بعد اغتيال أنور السادات وهو الإرهاب، وفي الوقت نفسه تحولت هذه الاتجاهات إلى صمام أمان للنظام الحاكم يضمن استيعاب التيارات المتصاعدة لحركات المعارضة بين صفوف الشعب وخاصة بين الشباب، وظهر هذا بوضوح في الصراع المبكر بين الشباب وبين الأحزاب الرسمية التي كانت تواجه الحركات السياسية الراديكالية بقوة ومن ناحية أخرى تحاول استيعاب عناصرها داخل تشكيلاتها سواء بالضغوط الأمنية المتمثلة في حمالات الاعتقال المتتالية للشباب، أو بالمغريات وبرع في هذا حزب التجمع اليساري وبعده حزب الوفد، وبقية الأحزاب الرسمية لم يكن دورها بعيدا عن هذا الدور,

وانشغلت ساحات المعارضة بالصراع بينها من جهة، وبمواجهة تحركات ما أطلق عليه إرهاب التطرف الإسلامي من جهة أخرى.

وفي المشهد ظهرت جماعة الإخوان التي لم تحظ باعتراف رسمي من الدولة ولكنها لم تدخل في صراع جذري مع النظام، بسبب أن تحركات الجماعة في المجتمع لم تكن تحركات سياسية ولم تقدم أية رؤية نقدية سياسية للنظام، بل كانت تحركات هادئة دعوية وخدمية للانتشار والسيطرة والهيمنة على مفاصل المجتمع وتفاصيله، وهو ما ظهرت نتائجه الناجحة في سيطرة الجماعة على العديد من النقابات المهنية والمجالس المحلية ومجلس الشعب منذ منتصف التسعينيات، وفي المقابل تراجع الوجود اليساري داخل النقابات العمالية بسبب تآكل الطبقة العاملة النتائج عن تطبيق سياسة التكيف الهيكلي والخصخصة التي أنتجها النظام بقوة وبشراسة هذه الفترة.

وبالطبع ضعفت قوى اليسار كصمام أمان للنظام في مواجهة تصاعد تيارات الإسلام السياسي سواء من خلال نمو جماعات العنف المسلح، أومن خلال تغلل جماعة الإخوان داخل المجتمع عبر تحركات دعوية وخدمية ناجحة.

استقرار النظام

ولم يشهد النظام الحاكم استقرارا مثلما شهده في هذه الفترة رغم بعض الأحداث الإرهابية التي ضربت المجتمع واستفاد منها النظام بقدر ما، وتحول الصراع في الساحة السياسية إلى مواجهة بين أحزاب معارضة رسمية أقرب للنظام من الشارع وبين تشكيلات إسلامية سياسية وخاصة جماعة الإخوان، من جهة، ومن جهة أخرى مواجهة الاتجاهات الشبابية المتصاعدة التي رفضت كل هذه التشكيلات وكان لها رؤيتها المختلفة للتغيير، وخاصة في ظل انفتاحها فكريا على العالم بعد ثورة الاتصالات التي فرضت نفسها على العالم.

ورغم أن جماعة الإخوان لم تحظ باعتراف رسمي بها من قبل السلطة فإن هذا كان له تأثيره الإيجابي على الجماعة من قبل الشارع المصري الذي كان فاقد الثقة بالأحزاب الرسمية المعترف بها من النظام، ولكن هذا لا يعني أن الجماعة اتخذت نهج التغيير الثوري تجاه السلطة، حيث كانت سياسة الجماعة أقرب للتطابق مع الأحزاب الرسمية من ناحية النزوع للتقارب من السلطة والتحالف معها، وهو ما استخدمه ساسة النظام المباركي فخلقوا قنوات اتصال مع الجماعة مع وجود قنوات اتصال بالاتجاهات الرسمية الأخرى وتلاعبوا بالجميع وهو ما يفسر بعض التحالفات الجزئية بين هذه التشكيلات والنظام من جهة واتساع هوة الصراع بينها من جهة أخرى، إنها لعبة السياسة التي لم ترق طوال الوقت للاتجاهات الشبابية الصاعدة.

وفي ظل هذا الاستقرار وميوعة المشهد السياسي نفذ النظام سياساته الضارة بالشعب في هدوء وببراعة في تنفيذ سياسة التكيف الهيكلي التي قضت على الصناعة المصرية وتحويل الاقتصاد المصري إلى اقتصاد تابع، واستكمال مخطط السلام مع إسرائيل كخطوة تجاه مشروع الشرق الأوسط الكبير، بل وترسيخ تمكين إسرائيل والوقوف بشده تجاه أي معارضة داخلية لها مثلما حدث في مناسبات كثيرة منها اعتقال الشباب المحتجين على الوجود الصهيوني في معارض الكتاب، أو أمام المعبد اليهودي، أو بإرضاء الكيان الصهيوني بمشهد قتل الجندي البطل سليمان خاطر داخل معتقله في مصر بعد أن قتل عدد من الإسرائيليين تعدوا على نقطة حراسته.

واتسعت القبضة الأمنية في الشارع المصري، واشتدت عنف الأداء الأمني إلى حد قتل وتعذيب المواطنين في الأقسام.

كل هذا لم يلق قبولا بين الشباب وبعض الاتجاهات الراديكالية من كل الأيدولوجيات.

أزمة الشباب

وجد الشباب وأصحاب الاتجاهات الراديكالية أنفسهم في أزمة ليس مع النظام فقط وإنما في هذا التحالف الانتهازي بين نظام فاسد ومعارضة تسعى لتحقيق مصالح جزئية سواء كانت معارضة مدنية أو إسلامية، ولا يوجد أي تصور لمشروع تغيير متكامل أو رؤية ثورية للخلاص، ورغم التسطيح السياسي بسبب حالة التمييع التي نجح النظام في فرضها، ورغم التجهيل بالعديد من القضايا الرئيسية المحيطة بالمجتمع واهمها قضية العداء مع إسرائيل، ورغم حالة الاستخفاف الثقافي والعلمي التي فرضها النظام لتسهيل السيطرة على المجتمع، تجاوز الشباب كل هذا بفعل ثورة الاتصالات التي مكنته من التواصل مع كل الإحداثيات في العالم.

بدأ الشباب في الاصطفاف متجاهلا الخلافات الأيديولوجية والتفاعل مع مشكلات الشارع والمجتمع مثلما حدث في 6 من أبريل (نيسان) 2008 في المحلة، واستطاع الصعود الشبابي التأثير على المشهد السياسي في الشارع المصري ما دفع العديد من الاتجاهات السياسية المتناحرة لمحاولة تدارك الموقف والالتحاق بحركة الصعود الشبابي، فشهدت هذه الفترة العديد من التحالفات بين كل الاتجاهات أبرزها التحالف في تشكيل حركة كفاية التي طالبت بانتهاء حكم مبارك.

سأتوقف عند هذه اللحظة باعتبارها المسؤولة عن أهم النتائج في حركة المعارضة المصرية وهي ثورة 2011، التي لم تحدث إلا بعد اضطرار كل الاتجاهات مدفوعين برغبة الشباب الثائر، إلى تجاوز خلافاتها والتركيز على هدف واحد وهو التغيير.

وما حدث من ردة بعد هذه الثورة لا ينفي أن هناك دروسا مستفادة أهمها أن تجاهل الخلافات والاختلافات الفكرية والأيدولوجية وتقديم مصالح الوطن هم الطريق الوحيد للثورة، وأن قيادة الشعب لحركة التغيير وإفرازه للنخب التي تمثله هو الضمان الوحيد لاستمرار الثورة، وللأسف هذا لم يحدث فكانت الردة وعودة حكم العسكر، ولكنها كانت مرحلة مهمة تحمل الكثير من الدروس ستعجل بإنجاز ثورتنا المتكاملة وحكم الشعب، لا تقلقوا أنه يوم قريب طالما استوعبنا الدرس.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه