من يناير 1977 ليناير 2020.. دروس مستفادة 2-3

الخلاصة أن كل هذه العوامل والأحداث المرتبكة والتداخلات عرقلت مخطط «السادات» لاستيعاب الواقع السياسي المصري وإخضاعه عن طريق الأحزاب الشرعية

 

في الحلقة السابقة من المقال استعرضنا الممهدات ليناير/كانون الثاني 1977 وهو التاريخ الذي اخترته كنقطة بداية للمقال، رغم أن البناء التاريخي لحركة الجماهير السياسية في الشارع المصري وعلاقاتها بالنظام الحاكم منذ عام 1952 يحمل مترتبات تصاعدية مرتبطة ببعض ارتباطا عضويا، ما علينا.. خلصنا في الحلقة السابقة لعدة حقائق مباشرة أو غير مباشرة أهمها:

  • أن النخب السياسية وأبناء الأيدولوجيات المختلفة استندوا عام 1952 إلى المؤسسة العسكرية التي تقدمت الثورة، أكثر من استنادهم على الشعب صاحب المصلحة الأولى في الثورة، وهو ما وضع مصير الانقلاب على النظام الملكي في أيدي العسكر، وارتبطت أهدافة وخطواته على رؤية العسكر وليس على رؤية الشعب ومصلحته.
  • نتيجة الملحوظة الأولى أن أصبحت كل القوى السياسية بغير مظلة حماية لها من بطش العسكر بعد أن انفصلوا عن الشعب وانفضوا عنه وأداروا الأحداث بشكل فوقي مع المؤسسة العسكرية المنقلبة على الحكم.
  • وترتب على الملحوظة الثانية أن استأثرت المجموعة العسكرية بالحكم وبمقدرات الأمور والحكم وأطاحوا بكل الاتجاهات المدنية مستخدمين كل أسلحة العنف والبطش والقسوة من اعتقالات ومطاردات وقتل وتعتيم.
  • لم تستطع النخب وأصحاب الأيدولوجيات حماية أنفسهم ولا حماية الشعب من الهيمنة العسكرية واستجابوا مستكينين مقهورين، حتى عام 1968 وبعد هزيمة 1967 أمام إسرائيل وعودة الروح للشارع المصري بفضل تحركات الشعب والطلاب الذين كسروا القيد الفاشي العسكري وخرجوا في مظاهرات يرفضون المحاكمات الهزيلة للمسؤولين عن الهزيمة، وتبعتها تحركات بعض الفرق السياسية، التي انتقلت من موقعها المنطقي في مقدمة الجماهير إلى موقع القفز على حركة الشعب، وهو ما يشير إلى طبيعة النخب والجماعات السياسية المعارضة في مصر التي تميل أكثر إلى السلطة أكثر من ميلها إلى الشعب.
  • ملحوظة مهمة وهي أن الحركات السياسية الشعبية منذ عام 1968 حتى عام 1977 كان يغلب عليها الطابع اليساري، بعد أن ظلت قوى جماعات الإسلام السياسي والوفد وبعض الاتجاهات الأخرى مختفية منذ فترة إطاحة الحكم العسكري بالأحزاب والجماعات المدنية بعد عام 1952. ولكنهم سيعودون في أواخر السبعينيات بفعل أحداث وعوامل أخرى سنتعرض لها في حينه.

فهل استوعبت النخب والفرق السياسية والجماعات الدرس وأعادت النظر في علاقاتها بالجماهير، وهل أدرك الشعب أن مصلحته في إفراز قيادة له تعبر عن مصالحه وتتمسك بثوابت وقواعد ومعايير تعكس مصالحه بكل اختلافاته وليس مصالح جماعات متناقضة ومختلفة، هذا ما سأحاول مناقشته في هذه الحلقة من خلال استعراض تاريخي لاهم الأحداث من يناير/كانون الثاني1977. مع ملاحظة أن هذا النوع من الكتابة السردية ليست هدفه التسلية ومتعة القراءة، بقدر ما يستهدف قراءة الأحداث بعين نقدية وتحليلها وتحويلها لخطوات مرشدة لحركة الشعب في مواجهة قوى الفاشية والعنف.

ديمقراطية بالمقاس

الفترة من 1976 وحتى أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1981. كانت أكثر فترة شهدت ارتباك وتداخل في الأحداث، ومتغيرات مهمة في المشهد السياسي وحركة المعارضة، وتحتاج منا قدر من التركيز، تتلخص في الآتي:

  • كان لانتقال نظام الحكم من نظام الحزب الواحد إلى التعددية الحزبية وإعلان المنابر بهذه الطريقة التي أعلنها رئيس الدولة أنور السادات وكأنه سلطة فوق الأحزاب يمنحها الشرعية وبالتالي يمكن منعها والسيطرة عليها، اثره الشديد على الساحة السياسية، وخاصة حركة اليسار التي كانت مؤثرة بين العمال والطلبة ووقتها رفضت أغلبية أطياف اليسار الراديكالي هذه الديمقراطية الممنوحة، واعتبروا أن حزب اليسار المعلن من قبل الحكومة هو مخطط لاستيعاب حركة اليسار الراديكالي في الشارع والسيطرة عليها وفي هذه الفترة شهدت الساحة السياسية صراعات واضحة بين اليسار خارج حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي،
  • الذي يسيطر عليه الشباب الماركسي، وبين اليسار الرسمي داخل حزب التجمع والمكون من ائتلاف من بعض الماركسيين والناصريين والقوميين وبعض من الاتجاه الديني التقدمي(بحسب ما أطلقوا على أنفسهم).
  • وفي نفس الوقت وفي اتجاه مواز كان «أنور السادات» يحمل كرها تاريخيا لليسار وخاصة في ظل موقف اليسار غير التجمعي المتشدد منه، وهو ما عرقل خطوات التقارب بينه وبين حزب التجمع بنسبة قليلة، وكان نتيجة هذا الكره كما ذكرت في الحلقة الأولى هو لجوء السادات لفرق الإسلام السياسي بكل مكوناتها للتصدي لليسارين ولحركتهم المتصاعدة بين العمال والطلبة، وبدأت الاتجاهات الإسلامية في الظهور دون رفع شعارات سياسية واضحة، وأصبح المشهد السياسي مقسوما لثلاثة أحزاب معلنة (التجمع – الأحرار – الحزب الوطني الذي ورث حزب مصر)، وبين مجموعات اليسار الراديكالي الرافض لأسلوب إعلان الأحزاب، وفي ركن من المشهد بدأت تظهر ملامح الاتجاهات الدينية وملامح لاتجاهات ليبرالية.
  • وبدأت التوجهات الليبرالية المصرية في التصاعد، وقام حزب الوفد، الذي يعتبر نفسه بيت الليبرالية، بإعادة الإعلان عن نفسه لأول مرة بعد حل الأحزاب عام 1953. عندما تقدم فؤاد سراج الدين في يناير/كانون الثاني 1978 بطلب الإعلان عن عودة حزب الوفد وممارسته السياسة بشكل علني، وهو ما لم يلق قبولا من السادات ورجاله، واعتبروه من أحزاب العهد البائد، إلا أن لجنة الأحزاب وتحت ضغوط الليبراليين المصريين، ومعظمهم من رجال القانون، وافقت في 4 فبرير/شباط1978 على إعلان حزب الوفد الجديد، الذي بدأ العمل في ظروف صعبة، في ظل رفض رئيس الدولة والحزب الوطني المهيمن على السلطة بنفس أسلوب الحزب الواحد، فبدأوا في فرض الحصار على حركة حزب الوفد، وشعرت قيادات الوفد بصدام وشيك مع السلطة فجمدوا نشاطهم طواعية، ورغم ذلك كان فؤاد سراج الدين ضمن المعتقلين في الحملة التي قام بها أنور السادات على كل الاتجاهات السياسية في سبتمبر (أيلول) 1981، وقبل اغتياله بأقل من شهر.
  • أما الاتجاهات الإسلامية السياسية فقد تحركت في اتجاهات مغايرة لما توقعه السادات منها، البعض منها لجأ للعمل المسلح السري المستند على تكفير الحاكم، أما جماعة الإخوان فأخذت طريقها مرة أخرى نحو العمل والوجود داخل المجتمع وإن كان بتفاعل ضعيف مع الأحداث السياسية آنذاك، فكانوا أقرب لجماعات الخدمات المدنية والجماعات الدعوية، واعتبر السادات عدم قيام الاتجاهات الإسلامية بالدور المطلوب منها تجاه حركة اليسار هو عدم التزام بالاتفاق الذي شهد عليه محمد عثمان محافظ أسيوط (كما أوضحت في الجزء الأول من المقال)، وهكذا انقلب السحر على الساحر، وفي المقابل انقلب السادات على جماعة الإخوان، حتى إنه هاجم المرشد العام الراحل الأستاذ عمر التلمساني في مواجهة علنية بالإسماعيلية، واتهم جماعة الإخوان بأنها مخربة، ورد عليه الأستاذ عمر التلمساني «يا ريس الله يعلم كم أمرضني ما قلتم سيادتكم عن الإخوان لو كان الذي قال ذلك أحد غير الرئيس السادات لشكوته للرئيس السادات أما وأن الرئيس السادات هو الذي قالها فإنا أشتكيك إلى الله»، وهنا انفعل السادات وقال: «اسحب شكواك يا شيخ عمر أنا أخاف الله» فرد الأستاذ عمر قائلا: «يا ريس أنا اشتكيتك لعادل لا يظلم»، وبعدها حل «التلمساني» نزيلا في سجن طرة بعد أن اعتقله السادات ضمن حملة سبتمبر/أيلول 1981.
  • ومن أهم أحداث هذه الفترة خروج أكبر انتفاضة جماهيرية في 18 يناير/كانون الثاني 1977 بسبب قرارات رفع بعض أسعار المواد الغذائية، وهي الانتفاضة التي اربكت حسابات أنور السادات الذي كان ما يزال دور بطل حرب التحرير في 1973، كما أنه لم يتوقع كل هذا الغضب الجماهيري عليه في ظل إعلانه المنابر والأحزاب والتي كان يتوقع منها استيعاب التفاعلات الجماهيرية، وخاصة أنه كان يخطط لمرحلة جديدة في العلاقات مع الغرب ومع إسرائيل على نحو ما سنرى، والحقيقة أن حركة الشارع في عام 1977 تجاوزت قدرات الأحزاب على استيعابها، وتحكمت فيها القيادات العمالية والطلابية المتأثرة بحركة اليسار الراديكالي، وشارك فيها بعض عناصر الإسلام السياسي في الجامعات، منهم طالب الطب ورئيس اتحاد طلاب جامعة القاهرة آنذاك عبد المنعم أبو الفتوح، الذي كانت له هو ورئيس الاتحاد الأسبق حمدين صباحي مواجهة عنيفة مع أنور السادات بعد انتفاضة 1977 غضب فيها السادات غضبا شديدا من كلام «أبو الفتوح» معه، ما يهمنا أن هذه الانتفاضة أفسدت خطة السادات في السيطرة على الأحزاب التي أعلنها وإخضاعها له، ليس بسبب رفض هذه الأحزاب القيام بهذا الدور، وإنما بسبب قوة حركة الشارع في ذلك الوقت،التي كانت رافضة لسياسات السادات الاقتصادية وانفتاحه غير المرشد على الغرب، بالإضافة إلى موقفه من إسرائيل بعد ذلك بعدة شهور
  • وقبل مغادرة هذه الفترة المرتبكة لا يمكن تجاهل إعلان السادات المفاجئ 9 نوفمبر (تشرين الثاني) 1977 بأنه على استعداد للسفر لإسرائيل، وسافر يوم 19 نوفمبر/ تشرين الثاني، أي بعد عشرة أيام من تصريحه، لتل أبيب وأسفرت الزيارة عن توقيع اتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل في سبتمبر/أيلول  1978، وكانت هذه الاتفاقية بمثابة صدمة كبيرة للمجتمع المصري والمجتمع العربي الذي عاش سنوات طويلة معبئا بعداء الصهيونية، واعتبرته معظم الدول العربية اتفاقا منفردا مع العدو وخيانة، واعتبره معظم الشعب المصري خيانة وتفريطا، ولم تستطع الأحزاب الرسمية أو الشرعية أن تؤيد هذه الاتفاقية، مع ملاحظة أن غالبية هذه المواقف سواء على مستوى الدول العربية أو على مستوى الأحزاب المحلية قد تغيرت إلى النقيض تماما بعد ذلك بسنوات، وأعتقد أن سبب الرفض الشديد وقت إعلان السادات عن الاتفاقية هو المفاجأة وعدم التمهيد لهذا القرار فتحول لصدمة ومؤامرة، أما الأحزاب الشرعية فكما قلت لم تؤيد الاتفاقية ولكنها لم ترفضها بشكل قطعي بل كان موقفا مائعا نابعا من طبيعتها المرتبطة بالنظام.
  • الخلاصة

ا أن كل هذه العوامل والأحداث المرتبكة والتداخلات عرقلت مخطط «السادات» لاستيعاب الواقع السياسي المصري وإخضاعه عن طريق الأحزاب الشرعية، بل دفعه لاتخاذ قرار احمق في سبتمبر/أيلول 1981 باعتقال معظم رموز الاتجاهات السياسية في مصر وشخصيات عامة وشخصيات دينية إسلامية ومسيحية في حملة أمنية غير مسبوقة، هزت صورة النظام المصري أمام العالم وكانت مقدمة لنهاية السادات باغتياله في 6 أكتوبر /تشرين أول1981  وسط جيشه الذي خاض به حرب أكتوبر، وبعد أقل من شهر من الحملة الأمنية في سبتمبر /أيلول1981، ليبدأ مشهدا جديدا للواقع السياسي مصر، سنناقشه في الجزء الثالث والأخير الأسبوع المقبل  إن شاء الله، والذي سأسلط فيه الضوء على الدور السلبي للأحزاب والجماعات والنخب المصرية في تمييع الصراع السياسي والطبقي في مصر للحد الذي مكن نظام حسني مبارك الفاسد من حكم البلاد أكثر من 30 عاما، والأسباب التي فجرت أول ثورة حقيقية في مصر خلال العصر الحديث وأقصد ثورة 2011، والدروس المستفادة.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه