من وسط الناس

أي نظام سياسي يجد نفسه محاطا بأزمات مختلفة قد يجد في الأمن فرصة لمزيد من تشديد قبضته.

في أحد الشوارع الهامة في القاهرة ” منطقة وسط البلد” حيث يواجه أحد فروع البنك المركزي كنيسة كبيرة ذات هيئة معمارية مميزة، فإن بعض شواهد الأزمة تبدو ماثلة للعيان على الأرض.

هناك متاريس من الإسمنت موضوعة أمام مقر البنك تحتل جانبا من الشارع، ولا يُسمح بالمرور إلا لمن سيدخل المبنى، ومع المتاريس ترابض مدرعتان من الجيش مجهزتان، وعلى أهبة الاستعداد للتدخل لو تطلب الأمر، وفي الجانب المواجه من الشارع حيث تقع الكنيسة تم غلق الشارع الجانبي الذي يفتح فيه بابها لاستقبال المصلين والرواد.

في الفترة السابقة كان الشارع الفرعي مفتوحا، وكانت الحركة فيه عادية، وكانت نقطة الحراسة على الكنيسة عادية أيضا، فأنا أعرف هذه المنطقة جيدا بحكم مروري فيها عندما أكون في القاهرة لقضاء بعض المصالح الخاصة.

ومن أمام متاريس الإسمنت وقوة الجيش علاوة على الحراسة الخاصة للبنك سمعت صوتا يفرض نفسه على أصوات محركات السيارات التي تتحرك ببطء بسبب الزحام المعتاد في هذه المنطقة التي تضم عددا من البنوك، وهو يشتكي بحرقة من مصاعب الحياة، التفت فوجدته عجوزا يرتدي جلبابا، وتبدو على ملامحه رقة الحال، وحركته متثاقلة بسبب عامل السن، وكانت شكواه بسيطة الكلمات بالغة الدلالة ومضمونها أننا لم نعش من قبل مثل هذه الأوضاع القاسية في ارتفاع الأسعار منذ الملك فارق.

الأمان

متاريس الإسمنت ظهرت لأول مرة أمام ذلك البنك وغيره بعد ثورة 25 يناير 2011 لحماية المرافق والمؤسسات الحيوية في البلاد، وكان الجنود موجودين والمدرعات واقفة أيضا، وهذا منح نوعا من الأمان للبنوك ولمرتاديها وللمارة في الشوارع في تلك المنطقة الحيوية، وكان وجود قوات الجيش في الشوارع مطلبا شعبيا بعد تراجع الشرطة وغيابها الملحوظ علاوة على حالة عدم الود الشعبي تجاهها بسبب ممارسات معروفة.

 وكانت قد سادت البلاد آنذاك بعض الفوضى وانتشرت السرقات وأعمال البلطجة والخطف وتجاوزات القانون وتهديد حياة ومصالح الناس من الخارجين على القانون، واستفاد البلطجية والعصابات وحتى الهواة في الجريمة من كثرة الاحتجاجات ذات الطبيعة الثورية والاجتماعية والفئوية، كما استفادوا من الصراعات والمواجهات بين رفقاء الثورة وشركاء الميدان، إذ وفرت تلك البيئة أجواء ملائمة لهم لممارسة الجريمة والابتزاز وترويع الآمنين، وبالتالي رفع الناس صوتهم عاليا مطالبين بتوفير الأمن على حساب أي شيء آخر.

أنا شخصيا عندما شاهدت في تلك الفترة عددا من المدرعات تقف على مسافات متباعدة على طريق مصر الإسكندرية الزراعي شعرت بالأمان عند العودة ليلا على هذا الطريق للمنطقة التي أعيش فيها، لكن بقيت المشكلة على الطرق المتفرعة منه المؤدية للمدن والقرى المختلفة.

مع ذلك ورغم ضرورات الأمن إلا أنه ليس في صالح الحياة المدنية الطبيعية المعتادة، وليس في صالح صورة مصر خارجيا سياسيا واستثماريا وسياحيا أن تُوجد قوات ثقيلة داخل المدن للحماية، وخصوصا قوات الجيش التي كانت قد انسحبت إلى ثكناتها بعد فترة من 3 يوليو 2013، وأزيلت كثير من المتاريس هنا وهناك، وكادت تعود الحياة الطبيعية للعاصمة والمحافظات، وشعر الناس ببعض الأمان الشخصي والعام بعد تراجع نسب الجرائم الجنائية المستجدة على المجتمع.

وتحت وطأة استهداف الكنائس مؤخرا، إذ شهدت مصر ثلاث تفجيرات كبيرة لثلاث كنائس في غضون شهور قليلة، فإن الإجراءات الأمنية الاستثنائية تعود مرة أخرى، وفي محيط الكنائس بشكل خاص، وأحد مظاهره ما شاهدته في ذلك الشارع في منطقة وسط البلد، ورغم أن ذلك الأمر يوفر شعورا بالأمن، لكنه شعور لا يجلب السعادة في نفس الوقت، إنما يثير القلق أن تكون بيوت العبادة مستهدفة، وأن تتحول إلى ما يشبه ثكنات عسكرية، وأن يكون المرور أمامها أو بجوارها محفوفا بالمخاطر، وأن يكون الدخول فيها لأداء العبادة خاضعا للتفتيش المشدد، والقلق الآخر الأهم أن ذلك الأمر ليس في صالح مناخ الاقتصاد والاستثمار والسياحة والاستقرار بشكل عام وخصوصا عندما يترافق مع فرض حالة الطوارئ.

مراهقة سياسية

إذا كانت مشاهد فوضى ما بعد 25 يناير، وحتى لو كان جانبا منها منظما، وجوانب أخرى عكست مراهقة سياسية لفصائل الثورة، قد جعلت في النهاية أن الأمن يسمو على الخبز والديمقراطية لدى العامة من الشعب، فإن الحالة الأمنية في سيناء وامتداداتها للقاهرة وبعض المحافظات والتركيز على الكنائس ستجعل الأمن يظل هو المطلب الحيوي لدى العامة أيضا رغم ارتفاع أصواتهم يشكل ملحوظ عن ذي قبل للصراخ من الغلاء الذي تحدث عنه ذلك العجوز معتبرا أن ما يجري في مصر لا شبيه له منذ الملك فاروق، وهناك غيره يعبر كل واحد منهم عن مصاعبه وشكاويه برواية أخرى، لكن الجميع يتفق في المجمل على أن الحياة الحانية التي كانت مأمولة ومنتظرة لم تتحقق، بل جاء مالم يكن في الحسبان والتوقع.

أي نظام سياسي يجد نفسه محاطا بأزمات مختلفة قد يجد في الأمن فرصة لمزيد من تشديد قبضته، وإذا كان ذلك يوفر له السيطرة على الأوضاع، لكنه لا يوفر حلولا لمعالجة الأزمات التي لا تجد علاجا جذريا، بل مجرد مسكنات وترحيل. وفي الحالة المصرية فإن الأمن بأشكاله المختلفة حاضر في مشهد الحياة العامة وبشكل كبير منذ يناير وخلال المراحل التي تلتها بأشكال أنظمة حكمها، ومع ذلك ولتركيزه على الجانب السياسي فإن الإرهاب وجد الثغرة في الكنائس مثلا، ثم مع تكثيف الأمن حولها فإنه قد يفكر في مناطق رخوة وثغرات أخرى ينفذ منها، ويباغت بضربات مفاجئة ليظل المشهد مربكا ومرتبكا، وتظل دوائر الأزمات متداخلة ومتشابكة ومعقدة من سياسية واقتصادية واجتماعية ورؤيوية وخططية وإدارية، فلا تحل واحدة منها من جذورها، وإذا حلت إحداها فإنها تكون جزئية مبتسرة.

وفي الخلاصة فإن مشهد الأمن الثقيل في ذلك الشارع، وصوت العجوز وهو يجأر بالشكوى المرة في ذلك الشارع أيضا، يعكسان وضعا صار بحاجة ماسة وعاجلة لحالة سياسية جديدة تستند لشعار ثورة يناير الخالد “عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية” لبدء مسار إنقاذي، ووضع اللبنة التي ما زال مكانها فارغا في بناء مصر الجديدة.     

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه