من دروس كورونا: العلماء قبل الضباط

هذا وقت العلماء، لا الضباط، والعلماء في كل وقت هم درة تاج الشعوب، هم ثروة الدول والأمم قبل الجنرالات مهما كانت قدراتهم ومهاراتهم.

الانتصار على كورونا بالمعامل والمختبرات، وليس بالجيوش، ومن يردد غير ذلك فلا أمل في خروجه من نفق الغباء المظلم.

الحرب مع (كوفيد – 19) تخطط لها وتديرها العقول، وليس البنادق.

هذا وقت العلماء، لا الضباط. والعلماء في كل وقت هم درة تاج الشعوب، هم ثروة الدول والأمم قبل الجنرالات مهما كانت قدراتهم ومهاراتهم.

صُنع العالِم والباحث ليس هيناً، ولا يصلح لهذه المهمة الجليلة أي شخص، إنما الموهوبون والأذكياء والنوابغ فقط، بينما إعداد أي فرد لحمل السلاح والقتال مسألة يسيرة، ففي الخدمة العسكرية الإجبارية يتم تأهيل كل الجنود لخوض المعارك، لكنهم لا يصلحون جميعاً ليكونوا من نخبة العلم.

مع هذا، لا تناقض بين العالم والضابط عندما تكون العلاقة بينهما صحيحة وفي مكانها، كل واحد فيهما يمارس مهامه لخدمة وطنه، لكن المشكلة عندما يجور الضابط على العالِم ويخضعه لسلطانه بقوة السلاح، والمشكلة تكون أوسع عندما يتوارى المدنيون نخباً وعقولاً ونجباء ولا يظهر غير الجنرالات الذين يحتكرون وحدهم التفكير والتخطيط والحكم والإدارة.

هذه المعادلة شديدة الاختلال في أنظمة حكم الفرد، وهى موزونة في أنظمة حكم الشعب، ألم يلفت الانتباه أن الرئيس الأمريكي ترامب يتأخر في مؤتمراته الصحفية، ويقدم الدكتور أنتوني فاوتشي مسؤول الفريق العلمي الباحث عن لقاح لفيروس كورونا المستجد، والرئيس الفرنسي ماكرون يزور المعهد الذي يجري أبحاثاً عن الفيروس لمحاولة فك شفرته والتوصل للعلاج المناسب، ويقف متواضعاً في حضرة العلماء رغم أنهم خليط عربي وأفريقي وهويتهم الفرنسية بالتجنيس.

لكنك لن تعثر على هذا المشهد في البلدان الواقعة على الضفة الأخرى، حيث لا يُرى أحد فيها يتكلم بمفرده كما يشاء إلا الحاكم الذي لا يقول شيئاً مفيداً، لا سياسة ولا ثقافة ولا علماً، ولا يتقدم عالم ولا باحث في حضوره.

ترسانة عسكرية

لو كان للجيوش والجنرالات فاعلية مع الوباء، لكانوا اصطادوا الفيروس منذ يومه الأول، فالصين منشأ الوباء تمتلك ترسانة عسكرية قادرة على التدمير الواسع، لكنها وقفت عاجزة أمام كائن ضئيل افترس مدينة (ووهان) ومدناً أخرى في هذا البلد الشاسع مساحة والهائل سكاناً.

وأمريكا القوة العسكرية الأعظم من الصين تتسمر مكانها مكبلة وحائرة أمام أرقام هائلة متصاعدة لأعداد المصابين والمتوفين، ومعها في المحنة دول كبرى مثل؛ إيطاليا، وفرنسا، وبريطانيا، وألمانيا، وإسبانيا، وبلجيكا، وسويسرا، وروسيا، وإيران، وتركيا، وغيرها.

الجيوش في هذه الدول، وفي بلدان أخرى كثيرة يضربها الفيروس، تمتلك قدرات ضخمة، لكنها تخسر المعركة مع كورونا، وتجأر بالشكوى من الخسائر، ولا تدري كيف توقف النزيف في أرواح البشر.

هكذا كل دول العالم بجيوشها النظامية وشرطتها المدنية وأجهزتها الأمنية والاستخبارية تقف بلا حول ولا قوة في مواجهة العدو الخفي الذي يتلاعب بها كما يشاء، ويفرض نوعاً من المساواة على بلدان العالم، فلا تمييز بين بلد وآخر وفق حسابات الثروة والنفوذ والتمدد والقوة، وامتلاك حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن، ومن المفارقات أن مجموعة الفيتو هى الأكثر تضرراً في العالم.

وفي هذه اللحظة الفارقة في التاريخ الحديث فإن العقل والعلم والمختبرات ومراكز البحوث والتجارب المعملية ومعاهد الدراسة والمستشفيات والفرق الطبية والرعاية والأسِّرة هى الأدوات الصحيحة والمناسبة للقتال ضد كورونا ومحاولة إيقاف تمدده.

 هذه المجالات المعرفية والإنسانية التي تستعيد حضورها وقيمتها أكثر مما هى عليه، وتعيد تذكير البشرية كلها؛ المتيقظ منها والغافل والمتغافل والمتعمد تأخير العلم وتقديم القوة والسلاح والاستبداد والأمن والعسكرة والقمع والفساد، تعيد التذكير بأنها وحدها الجندي الحقيقي والفعال والمؤثر في أزمة اليوم، وفي كل أزمة بحاجة لحلول العقل والمعرفة، وكل الأزمات لا حل لها إلا بالفكرة وليس بالرصاصة.

قناديل الحضارة

 العالم والمفكر هما جناحا أي مشروع تقدمي نهضوي، وهما قناديل الحضارة على مر التاريخ، فلم تشيد الأهرامات وسور الصين العظيم وحدائق بابل المعلقة ولم تُصنع الطائرة المدنية والمركبة الفضائية والأقمار الاصطناعية والهواتف المحمولة وتكنولوجيا الاتصالات ولم يصل الإنسان إلى الإنجازات العظيمة على مدار التاريخ إلا عبر عالم ومفكر، ولم يكن للجندي وصانع السلاح وداعية الحرب دور بارز في التقدم الإنساني، بل إن الدمار الذي تعيشه البشرية منذ البدء كان مصدره القادة العسكريين والحكام الطغاة، هرم الحضارة الإنسانية نما وارتفع على قواعد العلم والتفكير العقلي، وليس على قواعد القوة وغزو الجيوش واحتكارها الحكم.

وإذا كانت وظيفة الجيوش وأجهزة الشرطة صد العدوان الخارجي وحفظ الأمن الداخلي، وفي زمن الأوبئة تعمل على إنفاذ القانون في تطبيق الإجراءات الاحترازية الصحية ومساعدة الأجهزة المدنية في ساحات المواجهة، فإن هذا الدور يجب ألا يتجاوز حدوده وأن يتم بشكل طبيعي من دون ضجيج ولا دعاية، ومن دون تصوير هذه الأجهزة كأنها خط المواجهة الأول والأهم وإغفال أدوار الأجهزة والجهات المدنية وعلى رأسها العلماء والأطباء ومعهم طواقم المساعدين.

الجنود الحقيقيون على الجبهات، في زمن النكبات والأمراض هم الأطباء والعلماء حيث يعالجون المرضى ويدفعون الثمن من أوقات راحتهم وأرواحهم، ويواصلون تجاربهم للتوصل إلى اللقاحات والعلاجات المضادة للفيروسات لجعلها من الماضي، وكل أنظار العالم معلقة حالياً على الموجودين في مختبراتهم بحثاً عن اللقاح والعلاج.

وما لم يكن هناك علماء سبقوا وسعوا لاكتشاف الفيروسات ومحاصرة الأوبئة على اختلافاتها وعملوا على إفساد عملها ونشاطها بالعلاجات لكانت البشرية تعرضت للفناء، ولم تكن وصلت إلى المناعة من جائحات كثيرة مرت عليها وضربتها،ثم انهزمت أمام نخبة العلماء، وليس أمام قادة الجيوش والشرطة والمخابرات.

الإخفاق:

وإذا كان هناك إخفاق حتى الآن في التغلب على كورونا وهذا يشمل العالم الديمقراطي الحر، والعالم المستبد القمعي، لكن الفارق أن الديمقراطيات تتعامل مع شعوبها بشفافية في إعلان إجراءاتها وخطواتها وتحركاتها في التصدي للوباء والحفاظ على المواطنين، وتحفيز العقول المرابطة في مختبراتها لكشف أسرار الفيروس، أما الديكتاتوريات فتغيب عنها الصراحة والحقيقة في الأرقام وتتسم بالارتباك في خطط التصدي وحماية المواطنين، وتصل انتهازيتها إلى استثمار الجائحة في الدعاية وابتزاز الشعوب لمواصلة بناء نموذج الحاكم الفرد الذي يتحكم وحده في مختلف الملفات حتى كورونا.

ترامب رئيس أمريكا أقوى دولة في العالم يعقد مؤتمراً صحفياً كل يوم ليقدم لشعبه كشف حساب بتطورات الفيروس وطرق تعامل إدارته معه، ويقدم بفخر العلماء والأطباء للحديث في مجالات تخصصاتهم الدقيقة ومجهوداتهم في وقائع المعركة اليومية في المستشفيات والمختبرات بينما المستبدون لا يتحدثون مباشرة لشعوبهم، وإذا خرجوا للرأي العام يكون ذلك على فترات، ولا يقدمون أحداً عليهم، فهم وحدهم يتصدرون الجلسة والشاشة.

وإذا لم تستفد النظم الأمنية من دروس الوباء لاعادة الاعتبار للعقل والعلم والتعليم والبحث العلمي والصحة والفكر المبدع والتنمية التي تستهدف الإنسان فإن كورونا عندما يختفي سيكون كما جاء بلا فائدة أو درس واحد، وضحاياه على كثرتهم سيكونون قد ذهبوا هباء منثوراً، وفزع المواطنين وتحملهم لمصاعب مرحلة المرض سيكون هو والعدم سواء.

واتصور أنه لن يطرأ تغيير ذو قيمة في عقلية أنظمة الفرد المنتشي بنفسه والمهيمن بقوة البطش، فلا مؤشرات على أي تغيير أو انفتاح في هذه الأنظمة رغم مرور أشهر على الجائحة، بل يزداد خوفها أكثر على عروشها وكراسيها وتلجأ لتشديد القبضة الحديدية.

لكني على يقين أن الأنظمة العريقة في الديمقراطية، والحديثة فيها أيضاً، ستستوعب الدرس حتماً وستعالج كل السلبيات والنواقص التي ظهرت وانكشفت أمامها، لأن الحكم ليس غاية إنما وسيلة لخدمة المواطنين ومحاولة بناء الوطن الناجح.

وفلاسفة التحليل يتحدثون عن عالم ما بعد كورونا، وهذا العالم المتغير مجاله في أنظمة الحكم الديمقراطي الدستوري، أما الأنظمة المعاكسة لحركة التاريخ والتحديث والديمقراطية، فإنها بعد كورونا ستظل كما كانت قبله، الحاكم يتقدم والعالِم يتأخر.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه