من امرأة شائهة الفطرة، مع التحية

فما المطلوب من أصحاب المنابر والأقلام الدينية؟ المطلوب ليسَ تغيير الدين كما يظن البعض مرتاعًا عند ملاحظة أي خروج عن المألوف في طرح القضايا الدينية.

 

لقد نمت على حال واستيقظت على أخرى، فقد نمت امرأة سليمة الفطرة في عيون كل من أعرفهم، لأستيقظ بعد ساعات امرأة شائهة الفطرة في عيون كثير ممن أعرفهم ومن لا أعرفهم، وبين هاتين النسختين المتباينتين مني لم يكن ثمّة سوى منشور واحد، كتبته قبل الخلود إلى سريري، أتحدث فيه عن الصعوبات التي تلقاها الشابات أثناء التزامهن بحجابهن، وعما تهوى إليهن نفوسهن من ملذات يمسكهن عنهن بالحجاب، ويجاهدنها لوجه الله!

ولم أكن أدري أن حديثي عن شوق الفتاة لأن يتلاعب الهواء بشعرها، أو لأن يرمق جمالها رجل بنظرة إعجاب، سيكون عَرَضا واضحًا على تشوّه فطرتي كما قيل لي في عشرات التّعليقات الوعظيّة من الرّجال والنّساء على حدٍّ سواء!

فهل حقًّا كنتُ أحمل فطرة مشوّهة طوال هذا الوقت دون أن أنتبه؟ وماذا حلّ بهذه الفطرة؟ هل برز منها نتوءٌ شوهها؟ أو تجعّد لها جلد؟ أو نقص منها طرف؟!

من أين يأتي تصور الوجدان المسلم عن فطرة المرأة؟

تصعب في الحقيقة الإجابة عن أسئلتي تلك، ففي النهاية من الذي يحدد فطرة النّساء؟

 سيقول قائل: “الإسلام؛ فالإسلام دين الفطرة” وسأجيبه: “ولكن في القرآن والسنة الكثير من المسكوت عنه، فالله مثلا أمر بالحجاب، لكنه لم يأمر المرأة ألا تشتهي في قرارة نفسها أن تظهر للناس بتسريحة جميلة، وأن تفضل الموت تحت الأنقاض على الخروج مكشوفة الشعر أمام الرجال؟!”

 فمن ألصق هذه الأمور بفطرة المرأة؟ ولمَ كان على المرأة دومًا أن تلقّن فطرتها تلقينًا من الرّجال؟ وأن تبحث عما يتوافق مع هذه الفطرة وما يخالفها في قصص التّنوخي وكتابات الجاحظ، وفي أدب الرافعي ومقالات العقاد، وقبل كل شيء في كتب الوعاظ ومواقع الفتاوى وتعليقات الشّيوخ على أسئلة النساء؟

لقد كان صنّاع الثقافة من الأدباء والشعراء والمشتغلين بالفقه والوعظ وروّاد المنابر   المسؤولين عن رسم ملامح فطرة المرأة، الأمر الذي اعتنقته النساء بدون اعتراض، لأنهن لم يكن يملكن منابر ليخطبن عليها، أو كتبًا يتحدثن فيها عن أنفسهن، لقد كن دوما فصولا أو قصائد أو مواعظ في كتب ألّفها الرجال، وكانت المرأة تحتاج دوما من يخبرها عن فطرتها، لتعتنق ذلك وتعمل به.

وإنّ الأكثر تأثيرًا من بين هؤلاء هو الواعظ الدّيني، لأنّه إنّما يستند في أفكاره إلى قدسيّة النّصوص الدينية، ولذا فإنّه يقف على قدمين ثابتتين ليتحدّث عن المرأة، فتهزّ له النساء رؤوسهن ثم يرددن ما يقول ويربين عليه بناتهن. وكم يكون حظهنّ عظيمًا لو قال واعظٌ يوما: إن النساء تحب تجمّل الرجال لهن، أو يسرهن العناق ويروي ظمأ قلوبهن حنان أزواجهن، إذن لطرن فرحًا وتناقلن الخبر السّار في مجالسهن؛ أنهن وجدن أخيرًا من يفهمهن. أما أن يعبرن بوضوحٍ لا اختناق فيه عن مشاعرهن تلك، فهذا أمر بعيد التحقق، لأن “حياءهن” -الفطري هو الآخر- يمنعهنّ!

كلّ محاولة للبوح شذوذ يُستنكر:

وكما أحدثت قصائد نزار قباني التي قالها على لسان المرأة استنكارًا كبيرًا، لأنّها تحدّثت عن جوانب أنثويّة لم تكن تنتمي أبدًا لفطرةِ المرأة المفترضة في وجدان المجتمع المسلم؛ فإنّ مؤلّفات غادة السمان أو روايات أحلام مستغانمي غالبًا ما ينظر لها على أنها خروج عن النّوتة، أو مروق، أو تأثر بثقافات أخرى يُستنكر وتشيح عنه الرؤوس. ولكن مقدار هذا الاستنكار يبلغ أشّده إذا ما صدر مثل هذا الكلام عن كاتبة محجبة! فهو هنا تمرّد من داخل المنظومة على فطرةٍ عتيقةٍ متّفقٍ عليها، مطمَئن لها، وهو صوتٌ نشاز يجب أن تُزجر صاحبته ثم تُتلى عليها شروط التّوبة أو الاستتابة!

ومن العجيب أن يُعامل حديث النساء عن أنفسهن من خارج المنظومة، كأنْ يكن سافرات أو من ثقافات أخرى، على أنه بكلّيته انحراف عن الفطرة التي توسم بها النساء الملتزمات. فكيف يكون الالتزام الدّيني خطًّا فاصلًا تتحول فيه المرأة من حال إلى حال؟ وبرزخا بين عالمين مختلفين من النساء، عالمٍ تكون فيه أهواء النفس جزءًا من شعور المرأة الطبيعي لأنها “شائهة الفطرة” بالكلية، وعالم يكون فيه انعدام هذه الأهواء هو الأصل لا في السلوك فحسب، بل في التّفكير والشعور أيضا؟! يُنكر من يعتقدُ ذلك أن المرأة حين تكلمت هناك فإنها عبرت في كثير من كلامها عما تحسه المرأة هنا.

 ولكن الخطاب الوعظي يصرّ على الوقوف على قدمين من تصورات خاطئة عن المرأة، ليبدأ بمطاردتها في كل نواحي حياتها، لا التزامًا بالأوامر والنواهي الإلهية وحسب، بل تدخلًا بأدقّ تفاصيل السلوك، ثم تدخلًا في أخصّ خصوصيات كيان المرأة، وقدس أقداسها، ألا وهو نفسها وفكرها وقلبها، فيُراد لها أن تحس وتفكر وتهوى فقط بما يتلاءم مع القالب المقرر لها.

ابنة القرن الحادي والعشرين مختلفة:

وهكذا تجد الفتاة المسلمة نفسها مجبرة على حشر كيانها كله ـ لا سلوكها فحسب بل حتى خواطر نفسها الخاصة ـ في هذا القالب الضيّق جدًا، الصارم للغاية، الذي لا يمكن أن يتسع للاختلافات الفردية متباينة الطيف بين النساء، ولا حتى لنفس المرأة الواحدة شديدة الغنى والتقلب بين الفترات العمرية وتحت الظروف المختلفة.

ولقد نجح هذا الخطاب الوعظي في احتواء النّساء في أزمنةٍ سبقت، ولو ظاهريًّا، لكنّه بدأ يعجز عن احتواء المرأة المسلمة الشابّة، تحت وطأة التغيرات الكبيرة التي جاءت بها الألفية الجديدة، والتي أظهرت إلى السطح إمكانية الانتماء لقوالب أخرى لم يكن معترفًا بها.

لقد ظهر إلى النّور هذا الطّيف الواسع من المرأة “بين بين”، تلك المؤمنة التي تصلي مثلا ولكنها تضع أحمر شفاه، تلك التي ترتدي الجلباب ولكنها تكلّم زميلها في الجامعة، تلك المنقبة التي تتعلم التجويد ولكنها في علاقة حب مع شاب من الجمعية الإسلامية.

هذا الطّيف الواسع من النّساء لم يعد قادرًا على الدّخول في عملية نفاق وانفصامٍ مُرهقة طويلة الأمد مع منظومة قيمية صعبة الإرضاء، وفي ظروف يصعب جدا تطويعها لخدمة القالب القديم.

ويعرف كل ذي بصيرة، أن ابنة القرن الحادي والعشرين مختلفة تماما عن سابقتها، فابنة القرن الحادي والعشرين تتابع الأفلام المترجمة في يوتيوب بدون حذف، تشاهد المسلسلات المنتجة في ثقافات مختلفة على نت فليكس، تقرأ الروايات الأكثر مبيعا، تتابع حساب عارضات الأزياء الشهيرات في انستغرام، تدخل تطبيقات الدردشة بأسماء مستعارة ليلا لتخوض أحاديثا جنسيّة، تدخل غوغل لتطرح باللغة الانجليزية كل الأسئلة التي لم يستطع غوغل العربي أن يجيبها عنها، تقرأ في الفيزياء الكونية والفلسفة والقرآن، وتصادفها يوميا دعوات “تحررية” جذابة، ومواعظ دينية زاجرة، تخرج للعمل، ولديها شغف بتجربة كل جديد، ولديها مساحة كبيرة من الحرية!

فهم المرأة ضرورة ملحة في خطاب ديني جديد

هذه المرأة مشوشة، متناقضة المشاعر، لا تفهم نفسها، تتلقى من العالم الخارجي رسائل متعاكسة، لا تعرف الفرق بين الطبيعي وغير الطبيعي، وهي تشعر عندما تصطدم بالخطاب الديني الوعظي القديم بأنه لا يفهمها، بأنها أسوأ بكثير من أن يكون موجهًا لها، بأنها مشوّهة من الداخل، وغارقة في الآثام، لذا تجد نفسها شيئًا فشيئًا مستبعدة من هذا الخطاب، منفصلة عن المنظومة الدينية، وبأنها وفق هذه المعايير الصارمة غير مرحب بها، ما يدفعها إما للنفاق، أو للكبت، أو للبحث عن خطاب ديني جديد، أو ربما للخروج عن المنظومة كلها إلى غيرها.

فما المطلوب من أصحاب المنابر والأقلام الدينية؟

المطلوب ليسَ تغيير الدين كما يظن البعض مرتاعًا عند ملاحظة أي خروج عن المألوف في طرح القضايا الدينية.

 بل تغيير الخطاب الموجه للمرأة بشكل جذريّ تمامًا، استنادا إلى دراسات نفسية تتلصص حتى على أحاديث الصبايا الخاصة فوق الأرائك المريحة، وتنقل حقيقة المرأة بلا مجاملة للموروث.

 وهذا يتطلب عملًا بحثيًا واسعًا، وتعاونًا كبيرًا مع الكوادر النسائية، وتأمين جو من الحصانة للمرأة لتستطيع التعبير عن ذاتها، ودون خوفٍ من أن تستيقظ يوما لتجد نفسها شائهة الفطرة في عيون الناس بعد منشور كتبته عن إحساسها نحو الحجاب، ودون أن تشعر بالحاجة إلى مراجعة باب المرأة في كتب الجاحظ، أو ربما نكز أول رجل تصادفه أمامها، لتسأله عما يتوجب عليها الشعور به الآن لتُعتبر إنسانة سليمة الفطرة!

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه