من العاقل فينا ومن المجنون؟!

ما الفرق بين رؤية القذافي للديمقراطية ورؤية كل حكامنا، وإذا كان القذافي مجنونا فمن العاقل فينا ومن مجنون؟!

أصبحت لا أنحاز للمقالات التي تحمل وجهة نظر يسوقها صاحب المقال ليقنع بها القراء أو يستفزهم.

الشائع أن معمر القذافي مجنون، وأدبيات السخرية من كلام معمر القذافي فاقت أدبيات كُتّاب «نوبل»، وكلامي هذا لا يحمل نفيا لصفة الجنون عن القذافي أو تأييدا، ولكنه ربما يحمل تساؤلا نصه: ما الذي يفرق بين معمر القذافي وحكامنا؟

وأنا أكتب هذه السطور ليس لدى خطة للرد عل هذا التساؤل لهذا سأتكلم بما سيرد على خاطري في هذا الأمر من فوق مصطبة «المكلمانة» المصرية التي طالما قادت الوعي الجمعي المصري.

ديمقراطية القذافي

كانت الديمقراطية بالنسبة للقذافي إشكالية معقدة فعقليته البدائية الصحراوية لا تتعامل مع التعريفات إلا تعاملا حرفيا وأي خلل يمس التعريف يهز ثقته في هذا التعريف، كما أراد زعيم الثورة الصاعدة في ليبيا نظاما ديمقراطيا لا يتعارض مع هيمنته كزعيم لثورة في بلد أصابه التخلف لسنوات ويتناسب مع نظرته للشعب، وهي النظرة التي لم تخلُ من استعلاء ربما غير مقصود على الثقافة المتدنية لشعبه.

ولهذا بدأ القائد الصاعد متحمساً حماساً مرتبكاً للديمقراطية أسفر عن إنتاج مرتبك لنظرية جديدة عن المشاركة الشعبية عبر كتابه الأخضر، وانتهي معاديا لحركة الشعب التي أنهت حياته بطريقة بشعة تحت أقدام جماهير غاضبة.

وعن مشكلة الحكم قال القذافي: “أداة الحكم هي المشكلة السياسية الأولى التي تواجه الجماعات البشرية.

الأسرة يعود النزاع فيها أغلب الأحيان إلى هذه المشكلة.. أصبحت هذه المشكلة خطيرة جدا بعد أن تكونت المجتمعات الحديثة .. تواجه الشعوب الآن هذه المشكلة المستمرة. وتعاني المجتمعات العديد من المخاطر”.

وينتهي القذافي إلى الحل الأمثل لحل هذه المشكلة بأسلوب ديمقراطي شعبي من وجهة نظره قائلا:

“المؤتمرات الشعبية هي الوسيلة الوحيدة للديمقراطية الشعبية. إن أي نظام للحكم خلافاً لهذا الأسلوب، أسلوب المؤتمرات الشعبية، هو نظام حكم غير ديمقراطي. إن كافة أنظمة الحكم السائدة في العالم الآن ليست ديمقراطية ما لم تهتد إلى هذا الأسلوب. المؤتمرات الشعبية هي آخر المطاف لحركة الشعوب نحو الديمقراطية. المؤتمرات الشعبية واللجان الشعبية هي الثمرة النهائية لكفاح الشعوب من أجل الديمقراطية. المؤتمرات الشعبية واللجان الشعبية ليست من صنع الخيال بقدر ما هي نتـاج للفكر الإنساني الذي استوعب كافة التجارب الإنسانية من أجل الديمقراطية. إن الديمقراطية المباشرة هي الأسلوب المثالي الذي ليس محل نقاش أو خلاف”. 

ورغم هذه المقولات النظرية التي قالها القذافي في حكم الشعب إلا أن ليبيا شهدت سنوات طويلة من الحكم القمعي تحت حماية الوفرة الاقتصادية، وعانى المعارضون فيه من المطاردات والبطش والخطف والقتل.

ورغم حالة الرخاء الاقتصادي النسبي في ليبيا إلا أن النزوع الفطري نحو الديمقراطية، والتي لم يعرف الشعب الليبي منها سوى أقوال الزعيم، تسببت في خلق تيار تأثر بثورات الربيع العربي في تونس مصر فثار الشعب الليبي مطالبا النظام والزعيم القائد العقيد معمر القذافي بتدابير حكم ديمقراطي ومشاركة شعبية في الحكم، وهو ما شكل صدمة شديدة للقذافي الذي لم يتوقع هذا من شعبه الذي كان يراه دائما شعبا جاهلا ومتخلفا وعبدا لما يراه من إنجازات غير مسبوقة وأفضال على ليبيا، فواجه الثورة الشعبية بحماقة غير مسبوقة ممزوجة بتعال واستفزاز انعكسا في خطابه المتوتر الأخير والذي اعتبر فيه وجود ليبيا ذاتها مرتبط بوجود القذافي وثورته قائلا: “أما اليوم عندما تقول: «ليبيا»، يقولون لكم: آه ليبيا القذافي ؛ ليبيا الثورة. كل الشعوب الأفريقية، وشعوب أمريكا اللاتينية، وشعوب آسيا، تعتبر ليبيا قبلتها. وحكام العالم كلهم بقواهم الكبرى النووية، يتقاطرون على ليبيا، على بلدكم: على طرابلس، على سرت، على بنغازي”.

وأنهى القذافي خطابه معلنا الحرب على شعبه الذي يراه عبدا لثورته الخاصة قائلا: “هذه آخرتها؛ هذا الماء والملح الذي بيننا وبينكم. أهذا الدم والأخوة التي بيننا وبينكم، تزورون كل شيء علينا، بدل أن تكونوا معنا؛ تكونون ضدنا. لمصلحة من بالله؟! لمصلحة من؟! قد تندمون يوم لا ينفع الندم، والذي بيته من الزجاج لا يرجم الناس بالحجارة. من أنتم؟!.…دقت ساعة العمل؛ دقت ساعة الزحف؛ دقت ساعة الانتصار، لا رجوع. إلى الأمام. إلى الأمام. إلى الأمام… ثورة؛ ثورة”.

ومات القذافي تحت أقدام الجماهير الغاضبة، وطبقا للخطة الموضوعة مسبقا في كل أنظمة الحكم العسكري سادت الفوضى في ليبيا وعاد العسكر تحت لافتة إنقاذ البلاد منها ويحكموا مرة أخرى… مات العقيد ولم يمت الحكم العسكري!

ديمقراطية ناصرية بالنكهة العسكرية

جاءت الحقبة الناصرية تالية لحركة الضباط المصريين في 23 يوليه/تموز 1952، وهي الحركة التي استندت بشكل كامل على الإنجازات السياسية لكل حركات المعارضة المدنية قبل 1952، وورثت أو استولت على شعبيتها وتخلصت منها تحت شعار تطبيق مبادئ الثورة الستة والتي كان أولها إقامة حياة ديمقراطية سليمة.

والحقيقة المؤسفة أن موقف جمال عبد الناصر من الديمقراطية كان واضحا منذ اللحظة الأولي رغم كل التبريرات لمحبي عبد الناصر ومريديه (وأنا واحد من هؤلاء المحبين فيما يخص نواح كثيرة ليس منها الديمقراطية)، كانت رؤية «عبد الناصر» للديمقراطية ترتبط ارتباطا وثيقا بالهيمنة على الحكم والسيطرة على مقدرات البلاد بحجة مواجهة التحديات التي تواجه الثورة الصاعدة والمخاطر، وهي تقريباً نفس الحجج التي سيقت طوال الفترة التالية لحكم «ناصر» حتى الآن والتي استندت على تنحية الديمقراطية واستبعاد المعارضين والمنافسين للحكم (غالبا ما يكون عسكريا) والاستناد على الوجود الاستثنائي من أجل مواجهة أخطار محيطة تهدد الاستقرار منها ما هو حقيقي وكثير منها مصطنع لتبرير الموقف المعادي للديمقراطية.

من أجل هذا أصبح كل المعارضين للأنظمة الحاكمة المتتالية طبقا للخطاب الإعلامي السلطوي أعداء للوطن وربما خونة!!

المناورة بالديمقراطية

ما علينا… موقف جمال عبد الناصر من الديمقراطية ظهر واضحا من مارس/آذار 1954 أي بعد أقل عامين من حركة الضباط في يوليه 1952، عقب قيام السلطات المصرية بحملة اعتقال أكبر عدد من القوى السياسية المدنية التي كانت ترى أن حركة الضباط جزء من ثورتها على الحكم الملكي وفوجئوا باستبعادهم من المشهد فبدأوا في حركة احتجاج واسعة وعندها افتعل جمال عبد الناصر في مارس 1954 أزمة أو حدثت أزمة بالفعل نتيجة انحياز محمد نجيب للموقف الشعبي، وتعامله طوال الوقت بمنطق وقناعة أن وجود الضباط في الحكم هو وجود مؤقت حتى يتم تسليم الحكم لقيادة مدنية منتخبة. وأشاع عبد الناصر أن قائد مجلس قيادة الثورة محمد نجيب منحاز لجماعة الإخوان المسلمين، وخلال الأزمة أعلن عبد الناصر (لفظيا) تمسكه بالتدابير الديمقراطية والأسلوب الديمقراطي في الحكم، وتوالت الأحداث في أيام قليلة صعودا وهبوطا في مشاهد تتشابه مع الصعود والهبوط في مشاهد ما بعد ثورة 2011 الشعبية، وانتهى الأمر بمناورة من جمال عبد الناصر في 8 مارس 1954 بتنحيه عن رئاسة الوزراء وعودته نائبا لمجلس قيادة الثورة وتولى محمد نجيب رئاسة مجلس الوزراء بجانب رئاسة مجلس قيادة الثورة، ليصدر قرارا في 25 مارس 1954 بالسماح بقيام الأحزاب، وحل مجلس قيادة الثورة يوم 24 يوليه 1954، وفورا اجتمع ضباط الجيش، من جميع الأسلحة، في ثكناتهم، في 27 مارس 1954، وأعلنوا أن الثورة مهددة بالانحلال، إذا نُفذت قرارات 25 مارس، وحذروا من وقوع البلاد في الفوضى وعودة النظام السابق واعتصموا في الثكنات، ونجحوا في نقل هذه المخاوف لقطاع كبير من الشعب فأضرب عمال النقل احتجاجا على ما سموه عودة الأحزاب المنحلة، وطالبت النقابات استمرار مجلس قيادة الثورة العسكري (تفويض) وعدم الدخول في معارك انتخابية قبل جلاء الاستعمار وعم الإضراب العام في البلاد، وعاد العسكر على أكتاف الجماهير (لاحظوا وجه الشبه بين 27 مارس 1954 و30 يونيه 2013)… وتوالت الأحداث مشفوعة بتفاصيل ربما جزء منها مصطنع أو مقدر مثل حادث المنشية وانتهى الأمر بالتخلص من محمد نجيب وتحديد إقامته واستلقاء الضباط بقيادة جمال عبد الناصر على كرسي الحكم، واستمروا في الحكم حتى يومنا هذا رغم زوال حجتهم وجلاء المستعمر الإنجليزي عن مصر نهائيا في يونيه 1956.

وكثرت كلمات عبد الناصر عن الحرية والديمقراطية (إن حرية الرأي هي المقدمة الأولى للديمقراطية) بينما سجون هذه الفترة كانت ممتلئة بالمعارضين الذين قيدت حريتهم وأهينت كرامتهم واستشهد منهم المئات تحت وطأة التعذيب وكل هذا تحت مظلة حماية الوطن من المخاطر والجهاد والكفاح والقتال في معارك خسرنا معظمها، ولم يتحمل نتائج هذه الخسائر سوى الشعب البائس.

واستمر الحكم العسكري لمصر حتى يناير /كانون الثاني 2011. واندلاع أول ثورة مدنية للتخلص من حكم العسكر لم تستمر عامين حتى انهارت تحت ضغط مناورات العسكر المتشابهة لحد التطابق مع مناورات عسكر الخمسينيات وتحت ضغط قلة خبرة القوى المدنية وتشرذمها وعدائها لبعض والتخلي والجهل بالتاريخ ودروسه وتحت ضغط قلة الوعي الشعبي ووقوعه ضحية لأوهام المخاطر والأمن والأمان!!! وفي هذا الموضوع تفاصيل ربما لن تسمح لي الأقدار بسرد تفاصيل أكثر دقة لها ولكن حتما سيقوم بهذا آخرون، وهنا أعود إلى سؤالي الذي بدأت به المقال ما الفرق بين رؤية القذافي للديمقراطية ورؤية كل حكامنا، وإذا كان القذافي مجنونا فمن العاقل فينا ومن المجنون؟!

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه