من أوراق شيوعي سابق (5) عندما فضحتنا الطبقة العاملة

كان الظلام مهيبا وأنا أركب مرتبكاً أتوبيس العمال المتهالك لأول مرة، إذ كنت قد قررت الالتحاق كـ”عامل نسيج” في شركة إسكو بشبرا الخيمة، تنفيذاً لشعار حزب العمال الشيوعي المصري “الالتحام الجسدي بالطبقة العاملة”، كان ذلك تقريباً في عام 1986. الأمر بدا صعباً إلى حد ما، فقد كنت حاصلاً على بكالوريوس تجارة،  والمطلوب مني -كـ”عامل”- أن أتقدم بشهادتي الإعدادية، أي ما قبل الثانوية العامة. لكن كانت المشكلة الأكبر هي أن شهادة الالتحاق بالجيش تشير  بشكل غير مباشر إلى أنني حصلت على بكالوريوس لأنني أمضيت في الخدمة 18 شهرا، وهو ما قد يفسد الأمر كله. وإذا حدث فهذه مخاطرة كبيرة أمام الأجهزة الأمنية التي كانت ترصدنا في ذلك الوقت. لكن رفيق لنا في الحزب كان يعمل موظفاً في الشركة تولى الأمر وانتهت المشكلة، لكن بقى الخوف.

كانت المشكلة الثانية هي أن خبرتي كـ”عامل نسيج” هي خبرة ابن صاحب المصنع، وليست خبرة عامل يعمل بنفسه مباشرة. فقد كنت أعرف كيف أدير الماكينات في مصنع والدي، ولكني لا أعرف كيف أحل أي مشكلة، ولا أعمل بالسرعة المطلوبة من العامل. أضف إلى ذلك أن الماكينات الموجودة في الشركة مختلفة عن ماكينات مصنع والدي. لذلك ارتبكت وأخذت الكثير من الوقت لكي أفهم كيف تعمل، وساعدني رئيسي فمر الأمر “بسلام”، ويبدو أنهم كانوا يحتاجون لعمال حتى لو لم يكونوا مهرة.

عندما طرحت الفكرة تحمس قادة الحزب (المكتب السياسي)، حسبما قال لي المسؤول عني (رئيسي المباشر) وأكد أنهم فخورون بي، والحقيقة أنني أيضا كنت فخوراً بنفسي وسعيداً بنظرات رفاقي المنبهرة. فقد كان هذا “عمل نضالي نادر”. مع ذلك لم يكن هناك أي أعداد من جانب الحزب، مجرد تحديد هدف واحد وحيد وهو “تجنيد عمال” لكي يلتحقوا بالحزب. لم يكن هناك تفكير فيما احتاجه من تأهيل كـ”عامل”، ولا تأهيل للطرق التي يمكن بها تحقيق هذا التجنيد بشكل جيد. بدا الأمر وكأنهم ألحقوني من السماء إلى أرض لا أعرف عنها شيئاً.

عاملني العمال بحذر داخل الشركة، فقد كان شكلي وطريقتي مختلفة عنهم، وهذا طبيعي، لكن تدريجياً استطعت كسر هذه الحواجز مستنداً إلى خبرتي السابقة، و استطعت بناء علاقات محدودة. كانت الصعوبة الأكبر هي تطوير قدرتي على العمل على هذه الماكينات التي لا أعرفها، وأخذت كثيراً من الوقت لكي أكون مقبولاً، بمساعدة رئيسي وبعض زملائي و الذين أرهقوني جميعاً بأسئلة كثيرة، تهربت من معظمها حتى لا ينكشف أمري.

الصعوبة الأكبر كانت في أداء الحزب الذي لم يختلف، رغم  أنني الآن “ملتحم بالطبقة العاملة”، نفس اللقاءات، نفس الكلام. طلبت من المسؤول عني تكوين “خلية” جديدة، تتكون من مدرس وعامل ورفيقة. كان هدفي هو أن تكوين مجموعة من أعضاء الحزب تساعدني في إنجاز التجنيد بشكل جيد، أحتاج مساعدة رفيقنا العامل في فهم العمال وتصحيحاً لأخطائي في التعامل معهم. بعض العمال يحتاجون إلى مدرس لمساعدة أولادهم . الرفيقة تقيم علاقات مع زوجات وبنات العمال .. إلخ.

كانت المفاجأة الصادمة أن شيئاً من ذلك لم يحدث. المفاجأة الأكثر ألماً هي أنني لم أحصل على أجري الزهيد إلا بعد 45 يوما حسب لوائح الشركة. طوال هذه المدة الطويلة نأكل أنا وزوجتي السابقة أرخص وأحط أنواع الأكل، وأحياناً لا نجد هذا الطعام. مع ذلك لم يدعمني الحزب، ولم يقف أحد بجواري وأنا أحقق حلمهم في “الالتحام بالطبقة العاملة”. كنت غاضباً بشدة، وخاصة بعد أن رفض أحد الرفاق أن أعمل عدة ساعات في شقته التي كان يدهن حوائطها، واستعان برفاق آخرين بأجر رمزي. كانت حجته “دعه يتفرغ لمهمته النضالية” في “الالتحام بالطبقة العاملة”. صرخت بصوت عال في المسؤول عني، لكنه رد علي بأن الحزب فقير ولا يملك مالاً لدعمي، فقلت له: أوقفوا نشرتكم السرية التي توزعونها على الأعضاء وأعطوني هذا المال، فهذا أكثر نفعاً للثورة. بعد جدل طويل قال لي إنه سوف يصعد الأمر إلى “لجنة المنطقة” للمناقشة، لكنه لم يحدث أي شيء.

 كان تنظيماً سرياً، لا يمكنك معرفة من يأخذ القرارات، ولا كيف يتم اتخاذه، ولا كيف يصعد فلان إلى الموقع العلاني، ولا يمكنك معرفة الموارد المالية ولا أين ينفقها، إنها غرفة مظلمة تبحث فيها عن قطة سوداء.

كان شرخاً كبيراً في علاقتي بالحزب، فقد اكتشفت في هذه الفترة أن المسؤول عني وجد وقتاً لكي يؤسس خلية لا تضم إلا فتاة واحدة كان معجباً بها، في حين أنه لا يجد الوقت لكي يقابلني وقت ما أحتاجه. كما اكتشفت أنني بالنسبة للحزب ليس “بني آدم” من لحم ودم، لديه زوجة، ولديه احتياجات، لكنك مجرد أداة في يد أناس لا تعرفهم يعبثون بحياتك.

كان الدرس الأعظم هو ألا أسلم عقلي وحياتي لمجهول، ففي اللحظة التي تتنازل فيها عن نفسك لن تحقق شيئاً له قيمة لك أو لغيرك.

 عندما هرب الرفيق من النضال إلى الخمارة

 اشتريت “كشك” صغير (مقهى صغير)  من الأموال التي أسرقها من أبي. كان ذلك لتحقيق حلم “الالتحام الجسدي بالطبقة العاملة” الذي أقره المكتب السياسي للحزب. كان الكشك مثالياً، في وسط المصانع، العمال هم زبائنه، ويمكن أن يتطور ويقدم سندويتشات رخيصة وسريعة. اختار الحزب أحد الرفاق، ربما لأنه كان عاطلاً عن العمل. كان من أسرة فقيرة ومفككة، وعلاقته بوالده في غاية السوء، ولا يعطيه أي مال. كان الرفيق وهو صديقي منذ تعرفت عليه في الجامعة فرحاً بالعمل، وفرحاً بالتجربة.

لم يكن الأمر يحتاج إلى مهارات كبيرة، مجرد تقديم شاي وقهوة وباقي المشروبات الساخنة. كان الرفيق خفيف الظل ولديه قدرة سريعة على بناء العلاقات، واستطاع خلال فترة قصيرة أن يكون مركز جذب لعدد من عمال المنطقة. لكن لم يستفد الحزب من هذه التجربة كما حدث معي. فلم يكن هناك تأهيل للرفيق ولا متابعة جادة لما ينجزه. وانتهت التجربة بأن ترك الرفيق الكشك بعد أن وجد فرصة للعمل في بار ومطعم صغير في حي الزمالك، ودون أن يعرف أحد استطاع الحصول على فرصة للهجرة إلى ألمانيا حيث يعيش حتى اليوم.

لم يكن هذا هو الإهدار الوحيد، فقد أهدر الحزب في مدينة شبرا الخيمة جهود وأحلام حوالي 18 شاباً وفتاة في مقتبل حياتهم. كنا مجرد أدوات وليس بشر. أظن أن السبب هو أن التنظيم انعكاس لأيديولوجيا (الماركسية أو الشيوعية) مغلقة فاشية، تنطلق من حلم طوباوي لتنزل في الممارسة إلى كيان سري استبدادي، يربي داخله آلات بشرية للسمع والطاعة. لذلك هو غير قابل للتطور والتفاعل مع الحياة.  ولا أظن أن هذه الأمراض سببها الرئيسي اضطرار الحركة الشيوعية في مصر إلى العمل السري، لأنها هي محظورة. لا أظن أن الأمر سيختلف كثيراً لو كانت هناك علانية. فأي أيديولوجيا تعتبر نفسها فوق البشر، أي أيديولوجيا تعتبر الناس أدوات لتحقيق “جنة على الأرض”، ستفشل، فهي بشكل أو آخر تنتهي ضد الإنسانية.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه