مناقشة هادئة لحلقة الدّحّيح “إخوات من الرّضاعة”

 تأكيداتٌ لا بدّ منها..

في البداية لا بدّ من التّأكيد الضّروريّ على نقطتين منهجيّتين في الحوار وفي أيّ حوار:

الأولى: ضرورة مناقشة القول واستهداف الفكرة بمعزل عن قائلِها، فليس المطلوب وليس سليمًا إصدارُ الأحكام على القائلِ أو صاحب الفكرة وتحويل المسألة إلى معركة تكفيرٍ أو تفسيقٍ أو تبديعٍ أو تضليل، فلا شأن لي هنا بإصدار أيّ أحكامٍ على مقدّم البرنامج ولامناقشة هادئة معدّه ولا فريق العمل، ولا على البرنامج بكلّه ومجموعه، بل المقصد هو مناقشة الفكرة الواردة في حلقة بعينِها وهي حلقة “إخوات من الرّضاعة”

الثّاني: حضور أخلاق الحوار التي ينبغي التّأكيدُ عليها في المناقشات، فالحقّ لا يُدرَكُ بالبذاءة ولا بالإسفاف سواءٌ بالرّد على فكرةٍ أو بالدّفاع عنها، ومن المؤسف حقًّا أنّنا صرنا مضطرّين للتأكيد على وجوب الحوار الاخلاقيّ للوصول إلى الحقّ وبلوغ الحقيقة.

إغفالٌ واجتزاءٌ يصلُ حدّ التّدليسِ العلميّ

حرصَ مقدّم البرنامجِ على تجنّب الحديث في الموقف الدّينيّ والشّرعيّ بشكلٍ صريحٍ في قضية القرابة بسبب الرّضاع، رغم أنّه في كلّ الحلقة لم يتوقّف عن الحديث منطلقًا من الأنثروبولوجيـا.

وعند البحث في مفهوم الأنثروبولوجيـا التي تعني علم الإنسان نجد أن عموم التعريفات تنصّ على أنّ “الثقافة وتشمل المعتقد” من أهم أركان هذا العلم حتّى إنّ بعضهم جعلها العنوان الأبرز لهذا العلم؛ فعرّفها عالم الأنثروبولوجيـا الإنكليزي تايلور بأنّها : “الدراسة البيوثقافية المقارنة للإنسان” وغدا مؤسّسَ ما يعرف بالأنثروبولوجيا الثقافية.

فعندما تُطرح قضيّة القرابة من الرّضاع من وجهة نظر أنثربولوجيّة كما أكّد مقدّم البرنامج على مدار الحلقة ثمّ يحرص على أن يُغفل بشكلٍ تام موقف الدّين الإسلاميّ الذي هو العنوان الثّقافي الأبرز في البيئة الاجتماعيّة التي يتحدّث عنها في حلقته؛ فإنّه يغدو تمامًا كمن يتحدّث حلقةً كاملةً أو محاضرةً طويلةً عن النّظام الإنتخابيّ في دولة ما وعن الهيكليّة البرلمانيّة وعن نظام الحكم فيها ثمّ يعقّب بقوله: لا شأن لنا بالسّياسة فنحن لا نتحدّث في قضيّة سياسيّة!!!

فهذا الإغفال لموقف الدّين هو تناقضٌ مع المدخل الذي حاول مقدّم البرنامج تناول الموضوع من خلاله وهو تدليسٌ علميّ منهجيّ.

على أنّ هذا لم يكن التّدليس الوحيد في الحلقة، فقد حرص مقدّم الحلقة على التّأكيد على أنّ تحريم الزّواج بين الإخوة من الرّضاعة هو عادة عربيّة بدائيّة جاهليّة، متبنّيًا ما  ذكرته بعض المصادر التي سردها المقدّم في سجلّ المصادر لحلقته؛ حيثُ اعتبرت هذه المصادرُ أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حرّمَ الزّواج بين الأخوة من الرضاع إقرارًا للعادات والممارسات القبليّة التي كانت سائدةً في الجاهليّة.

صحيحٌ أنّ المقدّم لم يقل هذا صراحة لكنّه قاله من خلال حديثه وتأكيده أنّ هذا عادة عربيّة قبليّة دون أيّ إشارة إلى الحكم الشرعيّ الدينيّ الذي يوجبُ ذكرَه انتهاجُ واعتماد العلم الأنثربولوجي الذي حاول المقدّم إقناعنَا بأنّه ينتهجه، وهذا محضُ تدليسٍ علميّ وإساءة منهجيّة.

وتطلّقها عشان سبب زي ده؟!!

“تخيّل عزيزي المشاهد تكون عايش حياة سعيدة مع زوجتك الجميلة وتطلّقها عشان سبب زيّ ده؟!!”

بهذه العبارة عن مثال إنهاء الزّواج بسبب اكتشاف وجود رضاعٍ يحرم معه الاستمرار في الزّواج؛ يحكمُ مقدم البرنامج على حكمٍ شرعيّ أثبتَه القرآن الكريم والسّنّة النبويّة الصّحيحة والصّريحة، ويلقي شبهةً من خلال هذا الأسلوب الذي يعتمد تقديم الحكم الشرعيّ بطريقة تقريريّة وبأسلوبٍ يستفزّ النّفس البشريّة فيبعثها على النّفور من الحكم ورفضه النّفسيّ.

وسواءٌ قصد مقدّم البرنامج ذلك ام لم يقصده؛ فإنّ هذا الأسلوب يندرجُ تحت تسفيه حكمٍ ثابتٍ بالقرآن الكريم

 السبب الذي يتحدّث عنه مقدّم البرنامج بهذه الطريقة ليسَ عادةً قبليّة وعشائريّة كما أراد أن يوحي لنا بل هو أمرٌ من الله تعالى أنزله في كتابه بآيةٍ صريحة قال فيها ربّنا عزّوجلّ في الآية الثّالثة والعشرين من سورة النّساء: ” حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ”

وكذلك بيّنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حديثٍ صحيحٍ صريحٍ يرويه البخاريّ ومسلم: “يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ ما يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ”

“عشان سبب زي ده؟!!”هذه العبارة فيها إطلاق حكم ضمنيّ على قضيّة شرعيّة دينيّة وليست قضيّة عرفيّة اجتماعيّة فحسب دون تكليف العناء ببحثها أو بيان شروطها وظروفها وضوابطها، وهو ضربٌ من ضروب إلقاء الشّبهات بطريقة التبنّي لها والاعتقاد بها.

على أنّها لم تكن العبارة الوحيدة في المقاطع التي تكرّس الشّبهات بطريقة تتبنّاها، ففي بداية المقطع يقول مقدّم البرنامج بطريقة إلقائيّة لافتة يراد منها إبراز الفكرة وهو يحكي قصّة أحمد مكّي ودنيا سمير غانم: “والّا إنّهم يكونوا راضعين على بعض أو زي ما كان في الفيلم همّ الاتنين كانوا بياكلوا من كنتاكي؛ راضعين على كنتاكي راضعين من نفس الفرخة؛ أصل لو كدة يبقى همّ إخوات في الرّضاعة وبالتالي ما ينفعش يتجوّزوا”

هذه العبارة تطابق تمامًا ما يحاول المشكّكون في الحكم الشرعيّ إلقاءه بطريق التشكيك تارة وبطريق السخرية والاستهزاء تارة أخرى؛ فكرة مشابهة الأخوّة في الكنتاكي للإخوّة من الرّضاع، وهي فكرةٌ باطلةٌ لا يقرّها الشّرع والدّين أصلًا ولا يتبنّاها، فطرحها بهذه الطّريقة لا يندرجُ إلّا تحت محاولة التشكيك غير العلميّ وغير الأخلاقيّ في الوقت نفسه.

لسنا مضطرّين لإثبات تأثير لبن الأمّ على الطّفل

وهنا لا بدّ من التّأكيد بأنّنا لسنا مضطرّين ونحنُ نثبت الحكم الشرعيّ المتعلّق بتحريم الزّواج بسبب الرّضاعة؛ إلى المسارعة إلى إثبات تأثيرات لبن الأمّ على من ترضعه من النّاحية الطبيّة.

وكذلك فإنّ علينا التّأكيد بأنّ موافقة حقائق العلم للأحكام الشرعيّة شيءٌ وإخضاع الحكم الشرعيّ القطعيّ لحقائق العلم شيءٌ آخر.

فعندما نقول بتحريم الزّواج بين الأخوة من الرّضاعة فنحن ننطلق أولًا وقبل كلّ شيءٍ من الحكم الشرعيّ الثّابت بالوحيّ الصّريح سواءٌ أثبت العلم ذلك أم لم يفعل.

فالمؤمن يعتقد بصحّة ما في القران الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو يطبّق عموم الأحكام الشرعيّة لأنّ الله تعالى أمره بذلك لا لأنّ حقائق العلم أثبتت ذلك.

وعندما يثبت العلمُ الحقائقَ الشرعيّة فإنّ ذلك يزيد المؤمن يقينًا بالحكم الشرعيّ ولا يعطيه دليلًا على صحّة الحكم من حيثُ الأصل.

نصيحة مشفق

في الختام اتوجّه من الأخ الكريم مقدّم برنامج الدّحّيح وعموم مقدّمي البرامج التي تلقى شعبيّة ورواجًا بأن لا يدخلوا طرقًا وعرةً تُفقدُهم رصيدهم، وتفقدهُم مصداقيّتهُم عند العقلاء، وتضعهم في دائرة الريبة وإشارات الاستفهام

فهناك الكثير الكثير من قضايا الشّباب ومشكلاتهم وهمومهم ما هو أولى من إلقاء الشّبهات أو تمرير الرسائل غير الإيجابيّة تجاه معتقداتهم وإيمانهم.

 

 

 

 

 

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه