“ممالك النار” وتركيا وثروات شرق المتوسط

 

هل كان الأمر محض مصادفة أن يتزامن عرض مسلسل ممالك النار (المنتج الإماراتي) مع التصاعد الحاصل في منطقة شرق المتوسط؟

لا أظن ذلك، وفي رأيي أن هدف المسلسل لا يقتصر فقط – كما روج كثيرون – على الرغبة في تشويه الدولة العثمانية نكاية في تركيا المعاصرة، بل تمتد الأسباب لتدخل ضمن مخطط أوسع يتم التحرك من خلاله منذ عام ٢٠١٣ ذلك العام الذي شهد صعود الثورات المضادة في المنطقة العربية والتي ضربت بعنف في مصر وسوريا واليمن والعراق وليبيا وحاولت في تركيا لكنها فشلت كما سنوضح لاحقا.

تاريخ الدولة العثمانية مر بفترات ضعف دونما شك كان يمكن لأبو ظبي استغلالها إن كان الهدف يقتصر فقط على مجرد التشويه، وليس اختيار فترة السلطان سليم الأول المعروف باسم “يافوز” أي القوي، وهو اللقب الذي استحقه عن جدارة نظرا لقوة شخصيته العسكرية والسياسية والتي انعكست على الدولة العثمانية في عهده اتساعا وهيبة.

كما أن العلاقات المصرية العثمانية بصفة خاصة، مرت كذلك بفترات مالت فيها كفة القوة بشدة ناحية القاهرة خاصة في عهد محمد علي، إذ تمكن الجيش المصري بقيادة إبراهيم باشا ابن محمد علي من الانتصار على الجيش العثماني في “نزيب” بقلب الأناضول في يونيو ١٨٣٩ بعد سقوط الشام في يده، ما أدى إلى حدوث، نتائج استراتيجية هامة حينها.

 لكن يبدو أن الإمارات لم تشأ نكأ جراح حليفتها السعودية؛ إذ من المعروف أن إبراهيم باشا تمكن من دخول الدرعية عاصمة الدولة السعودية الأولى سنة ١٨١٨ ضمن التجريدة العسكرية التي أعدها أبوه محمد علي بأوامر من السلطان العثماني، وأنهى مغامرة آل سعود آنذاك بتأسيس دولة مستقلة.

إذن الاستدعاء الإماراتي لسليم الأول وطومان باي لم يكن لغرض التأريخ؛ فالمسلسل مليء بالأخطاء التاريخية المقصودة، ولكن لخدمة المرحلة التي يراد فيها تأجيج العداء ما بين القاهرة وأنقرة، استعدادا لصراع تتشكل بداياته وملامحه حاليا في منطقة شرق المتوسط المتخمة بالثروات من الغاز والنفط والهيدروكربون.

الاستعداد المبكر لصراع شرق المتوسط

منتصف عام ٢٠١٣ سيظل يمثل مرحلة فارقة في تاريخ المنطقة، وبلورة الصراع فيه، فالانقلاب العسكري في مصر في يونيو من ذلك العام منح الرياض وأبو ظبي والقاهرة وتل أبيب زخما كبيرا للمضي قدما في تنفيذ المخططات المعدة سلفا والتي تمحورت عناوينها البارزة في التالي:

  •    إعادة تقسيم المنطقة على أسس مذهبية ودينية 
  • الحيلولة دون قيام ثورات شعبية مستقبلية وإفشال ما كان منها قائما حينها خاصة في اليمن وسوريا والعراق وليبيا باستدعاء النموذج الداعشي.
  •  ضرب القوى السياسية إسلامية كانت أو يسارية أو ليبرالية طالما انحازت إلى فكرة الثورة والتي يمكن أن تشكل نواة لأي تحركات شعبية
  •  تسريع خطوات الحل النهائي في فلسطين المحتلة، أو ما عرف لاحقا بصفقة القرن
  • ضرب النظام الديمقراطي في تركيا وإسقاط أردوغان بصفة خاصة نظرا لما يمثله من نموذج متمرد على النظام العالمي، وملهم للشعوب العربية والإسلامية في الوقت ذاته
  • إحكام السيطرة على مراكز الثروات في العالمين العربي والإسلامي، ومحاولة غزو قطر والاستيلاء على ثروتها من الغاز مثال على ذلك.

وقد تمكن هذا الحلف من تحقيق نجاحات أبرزها الاستيلاء على الحكم في مصر، ووأد تجربتها الديمقراطية، لكنه فشل في تركيا التي بقيت متماسكة حتى الآن وتمكنت من إفشال انقلابين قادهما تنظيم غولن الأول في ديسمبر ٢٠١٣ والذي عرف بالانقلاب القضائي والثاني محاولة الانقلاب العسكرية الفاشلة، في ١٥ يوليو ٢٠١٦، حيث اتضح تورط الإمارات بشكل صريح في المحاولتين، ثم ما لبثت أنقرة أن طورت سياستها الخارجية بما مكنها من توظيف القوة العسكرية لمجابهة الأخطار الاستراتيجية التي تتهددها خارج حدودها وأبرزها عمليات درع الفرات وغصن الزيتون وأخيرا نبع السلام، حيث تمكنت من إفشال مخطط إقامة كيان انفصالي في شمال سوريا. كانت الولايات المتحدة تقف وراءه، بدعم سعودي إماراتي مصري مشترك.

تأثيرات السياسة الخارجية التركية امتدت إلى منطقة الخليج، عندما سارعت تركيا إلى تفعيل اتفاقية التعاون العسكري المشترك مع قطر عقب أزمة الحصار والتي لعبت دورا في إفشال ما تردد حينها من وجود نية لدى دول الحصار الأربع لعمل عسكري ضد الدوحة.

أما في شرق المتوسط فقد استعد ذلك الحلف جيدا كما سنرى.

تدعيم القوة البحرية المصرية

في الثالث والعشرين من سبتمبر/ أيلول عام ٢٠١٥ وقع عبد الفتاح السيسي مع الرئيس الفرنسي فرانسوا أولاند، اتفاقا لتزويد القاهرة بسفينتين من طراز “ميسترال” واللتين تم تصنيعهما لصالح روسيا لكن تم إلغاء الأمر بسبب الأزمة الأوكرانية، قيمة الصفقة قاربت مليار يورو أي حوالي ١٨ مليار جنيها مصريا، وبحسب ما أعلنه مصدر حكومي فرنسي حينها فإن السعودية شاركت في تمويل الصفقة، التي سارع كثيرون بتفسيرها بكونها جزءاً من تسويق نظام السيسي في أوربا وهو جزء صغير من الحقيقة التي كان يحرص السيسي على إخفائها حينها.

أما الخطاب الداخلي في مصر فبدا هزليا حيث روجت الآلة الإعلامية آنذاك أن الصفقة لمواجهة الإرهاب!! وبالطبع لن يكون بوسع أحد أن يسأل ما علاقة حاملة طائرات بمواجهة تنظيمات مسلحة في سيناء أو القاهرة أو غيرهما!! كما لن يكون بمقدور أحد أن يجيب عن التساؤل الآخر المهم لماذا مولت الرياض تلك الصفقة؟

وفي أواخر عام ٢٠١٦ بدأت مصر في تسلم السفينة الأولى من ميسترال، دون أن ينجح عام كامل ما بين عمليتي الشراء والتسليم في تبديد الشكوك حول الأسباب الحقيقية للصفقة.

لكن ٢١/١٠/٢٠١٦ نشرت وكالة سبوتنيك الروسية تقريرا مهما نقلا عن Warfiles تتساءل فيه عن الأسباب الكامنة وراء شراء ميسترال وقالت: “ظهرت في الآونة الأخيرة أخبار كثيرة عن سفن “ميسترال” المصرية، التي بنتها فرنسا من أجل القوات البحرية الروسية، ولكن في نهاية المطاف أصبحت جزءا من الأسطول المصري. ويطرح الكثير من التساؤلات التي تتحدث عن غرابة هذه الصفقة وحتى الآن لا شيء مفهوم”

وأضافت: “ويبدو أيضا أن المصريين لا يعرفون كيف سيستخدمون “ميسترال” ويحاولون أن يجدوا لها تطبيقا عمليا مناسبا”

أمام هذا الشيء غير المفهوم! ووسط حيرة المصريين، أعلن السيسي في 15 أكتوبر/ تشرين الأول أنه سيتم استخدام السفن في حماية حقول الغاز البحرية البعيدة!!

المفارقة أن سبوتنيك الروسية علقت على تصريح السيسي قائلة: “ولكن من ماذا ستحميها؟” إذ لم تكن ثمة أزمة قد لاحت في الأفق آنذاك فلم تكن تركيا دخلت على خط الأزمة بقوة كما هو الآن.

حرص السيسي على دعم القوات البحرية لم يتوقف عند ميسترال بل طلب من روسيا شراء مروحيات “كا-52كا” المطورة من أجل السفينة الجديدة، والمفارقة أن روسيا وافقت على الفور بتزويد مصر بهذه المروحيات الحديثة، والتي لم تكن قد زودت بها أي سفينة روسية حينها!!!

كما اشترى السيسي في 2014 من فرنسا أربع سفن حربية من طراز جويند، إضافة إلى فرقاطة فرنسية من طراز “فريم” في إطار صفقة قيمتها 5  مليارات و200 مليون يورو لشراء 24 مقاتلة رافال.

وفي عام ٢٠١٦ تعاقد السيسي مع شركة ألمانية لشراء أربع غواصات في صفقة تقدر بنحو مليار يورو، تسلمت مصر اثنتين منها حتى الآن، ولم يتم الإعلان عن الجهة التي مولت الصفقة.

هذه الصفقة كان يمكن بقاؤها ضمن إطار “دعم سلاح البحرية المصرية” لولا ما تكشف عن دور رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في إقناع برلين بالموافقة على بيع الغواصات لمصر وقال إنها لأسباب تتعلق بأمن إسرائيل!!! وعندما حاصره خصومه السياسيون واتهموه بتلقي رشاوي من أجل تمرير الصفقة للقاهرة نفى بشدة، وقال إنه لا يمكنه الكشف عن الأسباب لأنها “تتعلق بأسرار الدولة”.

فكيف يتوسط رئيس وزراء إسرائيلي لتزويد القاهرة بأربع غواصات لحفظ أمن الدولة العبرية؟

عبثية المشهد تستعصي على الخيال الجامح، لكن تبقى أنقرة هي كلمة السر كما سيأتي ذكره!

لصالح من يلعب السيسي؟!!

الغموض الذي رافق التدعيم المكثف للبحرية المصرية، رافق كذلك حرص السيسي منذ أيامه الأولى في الرئاسة المصرية على بناء حلف رباعي يضم مصر وإسرائيل واليونان وجنوب قبرص، والهرولة نحو إعادة ترسيم الحدود البحرية بين هذه الدول والاتفاق على تقاسم ثروات شرق المتوسط من نفط وغاز وغيره. الأمر الذي استفادت منه اليونان بشدة ومنح إسرائيل ميزة إمكانية نقل الغاز إلى أوربا مباشرة، لكن على حساب مصر التي خسرت حوالي ٤٠ ألف كيلو متر  من المنطقة الاقتصادية الخاصة بها.

لكن أتت مذكرة التفاهم التي وقعتها تركيا مع حكومة الوفاق الليبية حول تحديد مناطق الصلاحيات البحرية، لتقلب الأمور رأسا على عقب، فقد كانت أشبه بما يحدث في مباراة الشطرنج حين يتمكن أحد اللاعبينِ من إحداث فوضى هائلة لدى خصمه بلعبة واحدة.

فإعادة ترسيم الحدود البحرية بين أنقرة وطرابلس، مكن تركيا من إعادة خلط الأوراق لدى الحلف الرباعي شرق المتوسط إضافة إلى بعض الدول الأوربية، وهو ما أكده الرئيس رجب طيب أردوغان في حديثه لشبكة TRT حيث قال إن أنقرة “لن تسمح بأي خطوات أحادية الجانب في البحر المتوسط، ولن تتمكن إسرائيل من نقل الغاز عبر البحر المتوسط دون موافقتنا”

المفاجأة الكبرى أن مصر لم يصبها أي ضرر من الاتفاق بحسب ما أكده وزير الخارجية سامح شكري، بل ستستفيد باستعادة حوالي ٤٠ ألف كيلومتر فرط فيها السيسي بغرابه شديدة لصالح اليونان!!

الأمر الذي كان يستحق أن تمد القاهرة يد التعاون ناحية أنقرة للتعاون من أجل استرداد حقوقها، لكن ما حدث كان على النقيض تماما، إذ استمرت حملات التهييج ضد تركيا وتوظيف “سليم الأول وطومان باي” لدغدغة مشاعر الجماهير والإيعاز إلى البحرية لإجراء مناورات محدودة مصحوبة بهجوم إعلامي غير مبرر ضد تركيا!!

ما فرض إعادة طرح السؤال بشكل أكثر وضوحاً، هل سيوظف السيسي القوة البحرية التي تم تمويل تدعيمها من قبل السعودية والإمارات على مدار السنوات الماضية ضد تركيا من أجل الحفاظ على مصالح إسرائيل؟

علما بأن هذا الحلف كان يدرك خلال سنوات أن لحظة الصدام شرق المتوسط ستأتي يوما ما! وأن تركيا إن وقفت عاجزة عن الدفاع عن مصالحها سيتم محاصرتها في البحر المتوسط بل وبحر إيجه أيضاً.

ورغم أن تركيا عرضت مرارا وتكرارا على لسان كبار المسؤولين استعدادها للحوار مع دول شرق المتوسط باستثناء جنوب قبرص (لا تعترف بها تركيا) وذلك للوصول إلى حل عادل يرضي جميع الأطراف إلا أن عرضها قوبل بالتجاهل خاصة من قبل مصر، تزامنا مع رغبة واضحة من القاهرة والرياض وأبو ظبي في التصعيد، في صراع تكفلت به العواصم الثلاثة نيابة عن النظام العالمي الذي يزعجه وبشده الصعود المتنامي للدور التركي.

أعود إلى السؤال الأول.. هل جاءت “ممالك النار” كمجرد جملة اعتراضية؟!!

أعود وأكرر لا أظن ذلك!!!

 

 

 

 

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه