ملك ومواطن!

المعادلةُ الآنَ، هل يذهبُ الملكُ، بدمِ المواطنِ؟

قانونُ الأرض يقولُ العكسَ دوماً، الملوكُ يبقون، ويذهبُ المواطنون مهما كانت قيمتُهم ومظلوميتُهم، أما غيبُ السماء فهو شيءٌ آخرُ، والإيمانُ بعدالته المطلقة هو ما يُسرِّي عن نفوس أهالي الضحايا، أو من يتعرّضون للغبن.

محمّد بن سلمان ولي العهد السعوديّ، هو بيتُ القصيد هنا، وهو ملكٌ فعليٌّ، حتى وإن لم يتمّ تتويجه بعد، والمواطنُ هو الصحفي المغدورُ جمال خاشقجي، وفي رحيله كُتبت له حياةٌ أخرى يسطرُها منذ مقتله قبل 47 يوماً، وكأنه لا يزالُ موجوداً في عالم الأحياء، ذكراً لاسمه، وتقديراً لشخصه، واستدعاءً لمسيرته، وبروزاً لأفكاره، وحديثاً عن القصاص لدمه، لو عاد جمال للحياة جسداً فلن يصدّق انتفاضة العالم لأجله، وما يجري لمملكته، وملوكها، بعد سفك دمه، وهو الدم الأغلى تكلفةً لمواطن على نظام سياسيّ.

ابنُه صلاحٌ ختم تغريدة عنه بقوله: “اللهم انتقم ممن غدر به بعد أن أمّنه”، وهي دعوة وجدت صداها في الواقع، وقبل أن يكتبها صاحبُ نظرة التحدي الرهيبة التي نطقت بالكثير، وجابت الآفاق عندما تمّ جلبُه للقصرِ لتعزيتِهِ في والده.

 الملك وولي العهد .. ظهور وخفوت

الملكُ سلمانُ بن عبدالعزيز يظهر علناً بكثافة هذه الفترةِ، والهدفُ تخفيفُ الضغوط الدولية الهائلة على بلادِه من أثر اغتيال خاشقجي، ولإبعاد ابنِه وولي عهده عن الأضواءِ جانباً على أمل امتصاصِ بعضِ ارتداداتِ زلزالِ الجريمةِ بأقلِّ الخسائرِ على المستقبلِ السياسيِّ لنجلِه المحاصرِ بالشكوكِ مع المتهمينَ الـ 21 المباشرينَ في الجريمة.

لكنّ، ظهور الملك مراراً لا يعني أن الابنَ دخل المخزنَ، أو في طريقه لمغادرةِ ولاية العهد، غالباً لا يزالُ يديرُ المملكةَ مع تقليل الظهور علناً عما كان عليه الوضعُ قبل 2 من أكتوبر/تشرين الأول 2018، وهو اليوم الأصعبُ له منذُ وضعَ أقدامَه على أولى عتبات السلطةِ، لن ينسى هذا اليوم، يوم دخل مواطن سعوديّ وكاتبٌ متميزٌ، وناقدٌ متوازنٌ إلى قنصلية بلاده في إسطنبول، ولم يخرج منها، وبعد إنكار 18 يوماً اعترفت الرياض، وعلى مراحل، وفي روايات مُتناقضة، بمقتله داخل القنصلية.

 القضية وسؤال أردوغان المتكرر

هي قتلةٌ وحشيةٌ، يستحيل تمريرُها إنسانياً وأخلاقياً، لكن يمكن إطالةُ عُمُر القضية قانونياً، وتذويبها سياسياً، وإدخالها في دهاليز من الغموض، وتوزيع الاتهامات، من دون أن يمسّ التحقيق النقطة الشائكة التي يصرّ الرئيس التركي أردوغان عليها مراراً وتَكراراً وهي ضرورة تحديد المسؤول الرفيع الذي أصدر المُوافقة على نزع الحياة من جسد المغدور، هذا ما يُريد الوصول إليه، علماً أنّه يعلن الاسمَ من دون أن يصرّح به لاعتباراتٍ قانونيّةٍ وسياسيّةٍ، والعواصم الكُبرى في دعواتها لتحقيق شفّاف وجادّ يجيب عن كل الأسئلة، ويكون مقنعاً، تقترب مع ما تقوله كلمات أردوغان من دون أن تصرّح هي الأخرى بمن يكون صاحب الأمر في عملية تصفية خاشقجي، تكاليف المسؤولية تفرض عليهم جميعاً مواربة التصريحات.

وهنا، كأن أردوغان – ومعه كبار قادة حزبه الحاكم – يريد دفع ثلاثة أطراف للقيام بمهمة إعلان المسؤول الذي يحوم حوله، نيابة عنه، وهي: السعودية من خلال تحقيقاتها، والبيت الأبيض عبر المعلومات المتوفرة لديه، وثلاث عواصم أوربية كُبرى هي: لندن وباريس وبرلين انطلاقاً من حرصها على إظهار الحقيقة المجردة، لهذا تتشارك تركيا معها ما لديها من معلومات ونتائج تحقيقات وتسجيلات بشأن الجريمة.

والأطراف الثلاثة لن تفعل، أولاً: يستحيل أن تتهم السعودية ولي عهدها، وملكها المستقبلي حتى الآن لو كانت هناك شبهة ما تحوم حول توجيه مباشر، أو غير مباشر منه بتصفية خاشقجي، وهذا ما تأكد مرة أخرى الخميس 15 من الشهر الجاري من إعلان النيابة العامة نتائج التحقيقات مع المتهمين، وعلاقات التحالف والصداقة والمصالح العميقة للمملكة مع الطرفين الآخرين، الأمريكي والأوروبي، تمنعهما من توجيه أي اتهام، فضلاً عن أنهما ليسا جهتي تحقيق، هما ينتظران خلاصة تحقيقات الأجهزة القضائية السعودية، ومدى قدرتها على تقديم رواية أخيرة مقبولة يمكن لهما الاستناد إليها، واعتمادها، وتسويقها، وهما في نفس الوقت يتحسبان للرأي العام، والإعلام المستقل، والمنظمات الحقوقية والمدنية، وهذا الثلاثي لا مصالح له يسعى لحمايتها عند هذه الدولة أو تلك حتى يصمت ولا يتحدثُ ويناقشُ.

من سيتحمل مسؤولية الدم؟

في ملكيات الحكم المطلق قديماً واليوم، لا يذهب ملكٌ، أو ولي عهد، بدم مواطن مهما كان، تقريباً لم يحدث هذا الأمرُ في مراحل التاريخ المختلفة، هناك موازين وتقاليدُ قاسيةٌ لا تعبأ بمعنى الحياة الإنسانية وقيمتها، الدماء غير الملكية تذهب سُدى أحياناً، هذه هي دنيا البشر.

ربما منطق التفكير السعوديّ أنه لو تمّت التضحية بولي العهدِ من أجل مواطنٍ، فإنه بذلك يتمّ تسجيل سابقة في العرش، ستأخذ من هيبة الحكم والسلطان الذي هو عند العائلة الحاكمة عقيدة شبه مقدّسة، هذه العائلة أسست دولة بعد محاولتين متواضعتين سابقتين، والدولة هذه المرّة غير عادية، كبيرة مساحة، متغلغلة نفوذاً، تعوم على ثروات نفطية وطبيعية هائلة تضاعف تأثيرها الدولي، بجانب النفوذ الروحيّ والدينيّ وسط المُسلمين بوجود الحرمين الشريفين والمقدّسات فيها، وتحت إدارتها وحدها، ويصعب على عائلة حكم تقبض عليه بقوة تعريض هذا النفوذ الهائل إلى اهتزازات أو تغير في القواعد المستقرّة من أجل أحد الرعايا.

أتصوّر أن العائلة الحاكمة، حتى لو كانت في معظمها، أو في جزء منها، رافضة لبعض مسارات ولي العهد معها كما يتردد في الإعلام، فإنها قد لا تحبّذ فكرة تغييره لتفادي العاصفة، لأنه ربما في تفكيرها لو حصل ذلك، فإن من سيجلس مكانه سيظلّ أمامه ما جرى مع سابقه، وهو دم مواطن تسبّب في إخراج الرجل الثاني من منظومة الحكم، وهذا سيمثل قيداً من نوع ما على كل من يقود السلطة الملكية المطلقة.

فيما بعد يمكن تقليص صلاحيات ولي العهد، أو إعادة ترتيب هرم السلطة، أو أي حلول أخرى قد تتفتق عنها ذهنية المؤسّسة الملكية لحماية العرش والدولة، وإزالة ما علق بها، هذا إذا افترضنا أن هناك تفكيراً في أعلى هرم السلطة، وفي العائلة، بأن هناك شبهات تحوم حول دورٍ ما لولي العهد فيما حدث في القنصلية، ربما أن هذا التفكير غير موجود من الأصل، وأن يقين صاحب القرار في المملكة أن المسؤولية تتّجه إلى المتهمين الـ 21 فقط، ولن تتجاوزهم إلى مُستوى أرفع كثيراً منهم، لأنه لا أحد متهم أو مشتبه فيه غيرهم، وهذا عملياً ما قالته نتائج تحقيقات الخميس، والاتهامات الموجهة لـ 16 منهم.

الكلمة الأخيرة لثلاثة أطراف مؤثرة 

هناك أطراف أخرى لها تأثير في السياسة السعودية، على رأسها أمريكا اتساقاً مع التحالف الوثيق، والحماية الخاصّة التي توفرها للمملكة، ولهذا ينتظر الجميع كلمة أخيرة من ترامب، وواضح أنه لا يريد أن يضحي بمصالحه مع العهد الجديد، الفوائد التي يجنيها تجعله يتأنّى، فهو يسعى لدورة رئاسية ثانية، وطريقه لم يعد معبداً بعد نتائج الانتخابات النصفية للكونجرس، وهو يلزمه مزيداً من المنافع، ووجهته الأساسية هنا هي السعودية، وجون بولتون مستشار الأمن القومي الأمريكي قدم إشارة لها دلالتها بأن من استمع للتسجيلات الصوتية لم يستشف منها وجود مسؤولية لولي العهد في مقتل خاشقجي، وغالباً هذا ما سيتم البناء عليه في إعداد البيت الأبيض لموقفه النهائي.

وكلمة الكونغرس مهمة، لكنه في النهاية سيتفاهم مع البيت الأبيض على أجندة عقوبات، سيكون عنوانها الأساسي حرب اليمن ثم خاشقجي، والعقوبات لن تكون ذات سقف عالٍ، وبدا ذلك من قرار وزارة الخزانة الأمريكية أمس الأول بفرض عقوبات على 17 سعودياً لدورهم في الجريمة، وأوربا لا تخرج عن الخطّ الأمريكي في معظم ملفات الشرق الأوسط، وهي لها مصالحها أيضاً مع المملكة، ولن تفرط فيها بسهولة.

وإسرائيل، واللوبيات اليهودية، والجماعات المسيحية الإنجيلية الصهيونية، لها كلمتها في سياسة البيت الأبيض، وداخل الكونغرس، ويبدو من تطورات الأحداث أنها تدعم السلطة في السعودية كما هي من دون تغيير، ذلك أن إسرائيل تعتبر هذه السلطة فرصة لها قد لا يجود التغيير بمثلها.

تركيا .. والتدويل

والبعد الإقليميّ منقسمٌ، لكن الفريق الداعم للسعودية يساندها صراحةً، ويتحرك سراً لدى العواصم الكُبرى لإبقاء الوضع على حاله، ودعم ولي العهد، أما المحور المناوئ، فليست لديه رفاهية الإشارة الصريحة لوجود مسؤولية لولي العهد، لأنّه لو فعل سيكون هذا تدخلاً منه في التحقيقات، وفي شؤون دولة أخرى، والطرف الوحيد في هذا المحور القادر على الحديث بحرية وصراحة كاملة، وله مصلحة أكيدة في قول ما يريد، والاشتباه فيمن يشاء هو تركيا، لكنها لا تفعل، بل تنتظر من الآخرين أن يخوضوا معركتها القانونية والسياسية في هذه النقطة تحديداً بدلاً منها.

تصورت أن القضية بدأت تهدأ إعلامياً، وأن الموقف التركي آخذ في التراجع من القوة إلى الضعف، لكن جاءت الرواية الجديدة للنيابة السعودية أمس الأول في سلسلة روايات متتالية لا تزال غير مقنعة للعالم لتمد شرايين القضية بمادة جديدة، وتفجر نقاشاً وأسئلة أخرى فيها، وإذا كان الأتراك بدأوا يتحدثون بهدوء عن تدويل القضية، فالتوقع أن يصّعدوا في هذا الاتجاه مدعومين بمطالب مماثلة لمنظمات حقوقية دولية معتبرة.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه