ملحدون فئة: لن أعيش في جلباب أبي!!

عصام تليمة*
ومن الشباب المنسوب للإلحاد، فئة ترفع شعار: لن أعيش في جلباب أبي، فهو متمرد على بيئته، ومتمرد على واقعه، فمن هؤلاء من نشأ بين أب يحرص على أن ينشأ ابنه متدينا، لكنه أراده متدينا بالإكراه، وليس بطريق طبيعي فيه إقناع.
أعرف بعض حالات من هؤلاء، يعيش آباؤهم الآن محنة قاسية بتحول أبنائهم من التدين إلى ما يعلن الآن بظاهرة الإلحاد، وأشهر من عرفوا في التاريخ المصري المعاصر من الملحدين، لهذا السبب، هو: إسماعيل أدهم، حيث يحكي عن حاله، وكيف تحول للإلحاد، فيقول: إنه نشأ في أسرة الأب تركي مسلم متشدد، والأم مسيحية، وشغل الأب عنه نظرا لطبيعة عمله العسكرية، فوكله لزوج عمته، الذي كان يأخذه لصلاة الجمعة، وصلاة التراويح، وصيام رمضان، وحفظ القرآن، وكان ذلك يثقل كاهلي كطفل، حيث إنني حفظت القرآن وأنا ابن العاشرة، غير أني خرجت ساخطا على القرآن لأنه كلفني جهدا كبيرا كنت في حاجة إلى صرفه إلى ما هو أحب إلى نفسي. وكان كل ذلك من أسباب التمهيد لثورة نفسية على الإسلام وتعاليمه. وكانت مكتبة والدي مشحونة بآلاف الكتب، وكان محرما علي الخروج والاختلاط مع الأطفال الذين هم في سني، لقد عانيت أثر هذا التحريم في فردية تبعدني عن الجماعة فيما بعد). انظر: (لماذا أنا ملحد؟) لإسماعيل أدهم المنشور في مجلة (الإمام) أغسطس سنة 1937م
إن بعض الآباء المتدينين، يريد أن يكون ابنه نسخة كربونية منه، من باب أنه يريد له الخير، وأنه ييسر له سبيل التدين، فقد نشأ الأب في بيئة غير متدينة، ثم اهتدى للتدين عن طريق صديق له، أو بطريقة أخرى، فيظن أنه قد وفر على ابنه وسيلة التدين السهلة، فالأب والأم متدينان، وربما ينتميان لجماعة إسلامية دعوية، فماذا على ابنه من تضييقات وصعوبات كي يكون متدينا، فالبيت فيه مكتبة مملوءة بكتب دينية، والأجهزة في بيته من إذاعة وتلفاز لا تستخدم إلا في برامج دينية، فكيف يخرج ابني عن طوعي، ولا يكون خيرا مني؟!
ينسى هؤلاء الآباء المساكين، أن التدين ليس دواء تعطيه لصغيرك بملعقة، أو تذيبه له في كوب من الماء، وليس ثوبا فاخرا تشتريه لابنك فيلبسه، وليس بيتا مملوءا بوسائل التدين، من سجادة صلاة، ومصحف، وكتب دينية، بل هو خطاب للعقل، يحركه ويهزه هزا يجعله يصرخ بأعلى ما فيه: الله، وهو موجات من العاطفة تمس شغاف القلب، فتجعله هادئا ساكنا عامرا بالبراهين.
وكان على هؤلاء الآباء أن يحسنوا التعامل مع هذه الحالات، بشيء من سعة الصدر، والصبر على أبنائهم، فإن لكل إنسان شرة، ومرحلة يمر بها، والأسرة العاقلة هي من تتفهم ذلك، وتحسن التعامل معها، فالشباب مرحلة كلها فتوة وتمرد على كل ما حولها، والعاقل من لا يواجه الأمواج العاتية بحدة فتكسره، بل من يفتح لها جداول وقنوات تجعلها تسير بتوفيق الله إلى الخير والحق، وذلك بفتح الحوار بكل أريحية معهم، وقد فعل ذلك محمد صلى الله عليه وسلم، عندما ناقشه شاب في قضية الزنى، فلم تكن رغبة الشاب في الزنى عن ضعف وحب للنساء فقط، بل لاحظ أن للقضية في اعتقاد الشاب أصل فكري في عقله، ولنتأمل كيف عالج النبي صلى الله عليه وسلم هذه المشكلة الفكرية ولم يكتف فيها بإبداء الرأي من حيث التحريم وفقط، أتى شابٌ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه وقالوا: مه. مه. فقال: “ادنه، فدنا منه قريبا”. قال: فجلس.
قال: “أتحبه لأمك؟” قال: لا. والله جعلني الله فداءك. قال: “ولا الناس يحبونه لأمهاتهم”.
قال: “أفتحبه لابنتك؟” قال: لا. والله يا رسول الله جعلني الله فداءك قال: “ولا الناس يحبونه لبناتهم”.
قال: “أفتحبه لأختك؟” قال: لا. والله جعلني الله فداءك. قال: “ولا الناس يحبونه لأخواتهم”.
قال: “أفتحبه لعمتك؟” قال: لا. والله جعلني الله فداءك. قال: “ولا الناس يحبونه لعماتهم”.
قال: “أفتحبه لخالتك؟” قال: لا. والله جعلني الله فداءك. قال: “ولا الناس يحبونه لخالاتهم”.
قال: فوضع يده عليه وقال: “اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه” قال: فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء”.
إن المتأمل لهذا الحوار النبوي، يلحظ عدة أمور مهمة في تعامله مع مشكلة تنبع عن فكر داخل صاحبها، وليست أمرا طارئا عارضا، فقد كان الشاب من الشجاعة لأن يقول ما بداخله بكل وضوح، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم ناظرا للأمر لمعالجته من جذوره، وهو ما تعامل به بعض الحاضرين من الصحابة، فقالوا له: مه، مه، استنكارا لما يقول، ولكن الإنكار القولي عليه، ليس علاجا للمشكلة، إنه علاج لأثر وقتي، وستظل بداخل الشاب أفكاره وقناعته ورغبته في الزنى، فما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن عالج الأمر عند الشاب من حيث أنها فكرة بداخله، فناقشه هذا النقاش الطويل الذي رأيناه، وأن المشكلة متعلقة بأمرين: أمر فكري في رأسه، وأمر إرادته وعزيمته، وهي أمر قلبي في مكنون قلبه، من حبه للنساء، فعالج الرسول صلى الله عليه وسلم الأمر الفكري بالإقناع والحوار، وبقي الأمر القلبي، فكان ذلك بدعائه له: “اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه”.
بعض الآباء يجهل كذلك أن الإسلام يعرض ولا يفرض، فيعرض على الأبناء عرضا حسنا، دون فرض عليهم. وهو ما يحتاج لمقال مفصل عن هذا الأمر.

__________________

* من علماء الأزهر
 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه