مقبرة الزعيم

أما رؤساء مصر المغضوب عليهم الدكتور محمد مرسي، ومحمد نجيب فلم يسمح لهم ولا لذويهم بحرية اختيار المقبرة والتصرف فيها ودفنوا في مقابر عادية

 

في رمزية للخلود، إهتم الأباطرة، والقياصرة، والملوك، والحكام عبر حقب التاريخ المختلفة ببناء مقابر تخلد ذكراهم، فالزعيم الذي عاش ملء السمع والبصر، لايريد لذكراه أن تفنى ويطويها النسيان، فلتكن مخلدة في ضريح فخم، أو مقبرة فريدة.

من مقبرة الزعيم “كيم أول سونغ” في كوريا الشمالية التي كانت قصراً رئاسيا منيفا قبل أن تتحول إلى ضريح بعد موته..  إلى جثمان “لينين” المحنط في مقبرة ضخمة وسط الساحة الحمراء في موسكو، ومقابر ملوك انجلترا في كنيسة ويستمنستر في قلب لندن التي تضم رفات 17 من ملوكها، وضريح “ماوتسي تونغ” في ساحة تيان آن مين في قلب بكين والذي شارك في بنائه 700 ألف متطوع بعد موته من كل أنحاء البلاد، إلى مقبرة غاندي في الهند.. كلها جمعها هدف واحد وهو الخلود الرمزي بعد الموت.

مع الحضارة المصرية:

أما فكرة الخلود في المقبرة هذه فقد بدأت قديما جداً في الحضارة المصرية القديمة، وكانت متأصلة بشكل كبير في عقيدة المصريين القدماء، وبلغت ذروتها في بناء الإهرامات  كمقابر للملوك،  فقد كان لديهم اعتقاد راسخ بعودة الروح للجسد، وكان الكهنة يعتقدون أن جسم الإنسان يتكون من ثلاثية  الجسد، والروح، والشبح الذي سمي “كا”  وكان دوره أن يصحب  الجسم بعد الموت إلى الحياة الأخرى، لهذا وضع المصريون الأكل والشرب في المقبرة على منضدة القرابين حتي يتمكن من العيش عند عودته للمقبرة،  أما الروح “با” فمثلوها علي شكل طائر ينتقل من شجرة إلى شجرة، وترحل عن صاحبها بعد موته وتعود إليه أحيانا، لهذا صنعوا تمثالا للمتوفى في المقبرة حتى تتعرف عليه عندما تعود له.

الرئيس المتوفى حديثا حسني مبارك الذي حكم مصر طيلة 30 عاما، وأجبرعلى التنحي عن الحكم بعد ثورة 2011 لم يكن حتى سنة 2009 قد فكر في بناء مقبرة له،  فجلوسه على الكرسي مدة طويلة ممتدة، جعله يعيش أسير حياة الحكم والسلطة، ويغفل جانب النهاية وفناء الجسد حتى مات حفيده فجأة،  فتغير الحال وبدأ في سنة 2010 تشييد مقبرة ضخمة له ولأسرته في حي مصرالجديدة على مساحة تجاوزت الألف متر، وبنيت على طراز يختلف عن باقي المقابر المجاورة لها،  فهى مجهزة لاستقبال الزوار، وسيارتهم، وبها قاعة استقبال كبيرة وساحة إنتظار سيارات،  وملحق بها دورة مياه فخمة،  وهي مبنية من الرخام عالي الجودة الطارد للحشرات، ومزودة بهاتف دولي وأثاث فرنسي، وصالون آثري مذهب يعود إلى عصر أسرة محمد على ، أما الأرضيات فهي مغطاة بسجاد إيراني أحمر اللون،  وهي محصنة بشكل كبير، ومحاطة بسور شاهق عليه كشافات إضاءة كبيرة، ولها بوابة حديدية ضخمة عليها زجاج عاكس للرؤية، وأمامها أشجار النرجس والياسمين ونباتات زينة وصبار.

هذه المبالغة المصرية في بناء مقابر فخمة للغاية سواء في أوساط الحكام أو الأثرياء، غير موجودة في دول إسلامية أخرى مثل السعودية، ودول الخليج، فالدفن يتم على الطريقة الإسلامية، بوضع الجثة في حفرة، ومن ثم ردمها بكومة من التراب، دون أي مظهر من مظاهر المبالغة، ورأينا ذلك مرارا وتكرارا في دفن ملوك السعودية الراحلين، وأخيرا السلطان قابوس بن سعيد في عمان.

الاهتمام المصري بالمقابر:

لكن المصريون بشكل خاص في كل الحقب التاريخية التي مرت بها مصر، كانوا مهتمين دائما بالمقبرة ودور العبادة، فأسرة محمد علي دفنت في مقابر فخمة شيدها هو بنفسه عام 1816 في حوش الباشا في مقابر الإمام الشافعي، لكنه لم يدفن فيها وتم دفنه في مسجده الشهير في قلعة صلاح الدين. أما باقي أفراد أسرته فقد تم دفنهم فيها وهي تضم 16مقبرة كلها ذات تصميمات فريدة، ومصنوعة من أجود أنواع الرخام المستورد خصيصا لها من إيطاليا، ونظرا لأهميتها التاريخية، والأثرية فقد دخلت في اختصاصات هيئة الآثار المصرية التي أصبحت تشرف على ترميماتها والعناية بها.  

الرئيس جمال عبد الناصر الذي كان منحازا للفقراء أكثر من غيره، لم يخرج عن تلك القاعدة،  فقد بنى له قبراً على الطراز العربي الحديث داخل مسجد كوبري القبة في منطقة كوبري القبة بالقاهرة في عام 1965 ، أما الرئيس السيسي فقد كشف محمد علي المقاول المنشق أنه هو الآخر بنى مقبرة فاخرة دفن فيها والدته التي توفيت أثناء رئاسته لمصر، والرئيس السادات كان قد اختار مكان دفنه في وصيته التي آثر فيها  الرمز أكثر من الفخامة، فقد دفن تحت النصب التذكاري للجندي المجهول في مدينة نصر، أما رؤساء مصر المغضوب عليهم  الدكتور محمد مرسي، ومحمد نجيب فلم يسمح لهم ولا لذويهم بحرية اختيار المقبرة والتصرف فيها ودفنوا في مقابر عادية.

الكاتب الشهير محمد حسنين هيكل الذي كان قريبا من دوائر الحكم خاصة فى حقبة جمال عبد الناصر وصلت إليه هذه النزعة الملكية في التخليد، وكان يريد أن يبني له مقبرة في حديقة منزله في براقش لكنه لم ينجح في ذلك، لكن الشيخ مصطفى إسماعيل قارئ القرآن الشهير أحس بهذه العظمة التي منحها الله في موهبته في ترتيل القرآن الكريم فسمح له الرئيس السادات ببناء قبر له دفن فيه بعد موته في حديقة فيلته في قريته بطنطا.

مقابر الأولياء:

عادة لا يزور عامة الشعب مقابر السياسيين الفخمة، ولا يهتمون بها، لكنهم يهتمون فقط بزيارة مقابر أولياء الله الصالحين وهي الوحيدة التي لها قدسيتها ومكانتها في الفكر المصري، وتستحق الزيارة، وهم عادة يلجؤون إليها للتبرك، وطلب المساعدة، والدعاء على الظالم.

هكذا ستظل المقبرة هي المقبرة سواء كانت صرحاً ضخماً فوق الأرض، أو حفرة صغيرة تحت الأرض، ولن يفيد شكلها أو اسم صاحبها في الفناء الحتمي للجسد، سواء كان ملكا أو غفيرا، لكن تراث المصريين منذ عهد الفراعنة لن يتغير في مفهوم فخامة مقبرة الحاكم.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه