مقال بخلفية عسكرية

استبدال محمود حجازي بمحمد حجازي، ليس مجرد “حذف واو”، لكنه شرخ في الثقة داخل مؤسسة خطيرة

(1)

الحقيقة في مصر حرة، ثائرة،شابة؛ لذلك لن تجدها إلا في السجن، فليس من المعقول في دولة الحجب والقمع والفساد أن يتركها الحاكم  طليقة عالية الصوت في الميادين والشوارع، و في غياب الحقيقة (كما تعرفون) تنتشر الشائعات والتخمينات والتكهنات، ويسعى الناس لتعويض “الخرس الرسمي” و”الهرتلة الإعلامية” بالتوسع في الكلام، والدوران حول الحقيقة، حتى لو لم يستطع أحد الإمساك بها، وقد تجلى ذلك بوضوح بعد انفجار مفاجأة إقالة السيسي لرئيس أركان الجيش المصري الفريق محمود حجازي، من دون تقديم أسباب، وشمل القرار تعيينه مستشاراً رئاسياً للتخطيط الاستراتيجي وإدارة الأزمات، وهذا الصفة تبدو كترضية وتبرئة من ربط قرار الإطاحة بالتقصير في حادث الواحات، لأنه ليس من المعقول أن يتم عزل قائد بسبب عدم مقدرته على التنسيق مع الشرطة، أو التخطيط لعملية صغيرة تستهدف اعتقال عدد قليل من الإرهابيين، ثم يتم تعيينه خبير تخطيط استراتيجي ومدير أزمات!

(2)

أمام سيل التكهنات الذي انهمر ليغرق السوشيال ميديا وجلسات المقاهي، التزمت المؤسسات الرسمية الصمت التام، وتوقف الإعلام “العباسي” تحت الخط الأدنى من المعلومات، ومن خرج من تحت الخط الأدنى اتكأ على عكازات الخبراء الأمنيين من العسكريين السابقين، ليقولوا: عادي، ده تغيير عادي، ولا علاقة له بالتغييرات العقابية التي طالت عددا من قيادات الصف الثاني في وزارة الداخلية بتهمة التقصير الذي أدى إلى “نكسة الواحات”، وبين الصمت والكلام المجاني الذي لا يستند إلى معلومات، لا نملك إلا منهج الاستدلال، والربط بين الأحداث لنرسم صورة تقريبية لملامح “الحقيقة الحبيسة”.

(3)

هناك معلومة واحدة تكشف لنا عن لحظة الطلاق بين “الصهرين”، تليفون من جهة، أو اجتماع تشاوري انتهى إلى نتيجة متفق عليها، أو صدام بين الرؤية العسكرية والروية السياسية بشأن ترتيبات الحرب ضد الإرهاب (وأستغفر الله من اتهام الطرفين بامتلاك رؤية من الأساس)، أو اكتشاف خيوط مؤامرة شارك فيها حجازي لإطاحة السيسي من الحكم، وأقول “خيوط” لأن رد الفعل لا يتناسب أبدا مع اكتشاف مؤامرة “كاملة الأركان”، والمعلومة الأخيرة تتعلق بوجود اتفاق لسحب “الجوكر” من داخل الثكنات، وتأهيله مدنيا في عدة أشهر للاستفادة منه في تمكين الناظم سياسيا بالسيطرة على الحكومة، أو حتى ليلعب مع السيسي لعبة (بوتين/ميدفيديف) ويتحول إلى مرشح سياسي، وربما “رئيس شريك” في حالة وجود ضغوط دولية وإقليمية تضطر السيسي لترك الرئاسة.

(4)

كل هذه التخمينات تبدو قريبة من الخيال الأدبي والدرامي، لكنها ليست منبتة الصلة بالواقع السياسي في مصر، لأنه واقع غير منطقي، ولا تحكمه قواعد دستورية أو عقلانية حتى، لكننا نستطيع عن طريق التحليل الهاديء أن نقسم هذه التخمينات إلى نوعين من حيث “الدوافع”:

النوع الأول يركز على الفراق بين الصهرين بكل ما يشمله ذلك من عقاب على التقصير، أو وجود تعليمات من الخارج أو تقارير استخبارات نبهت أو حذرت أو أجبرت السيسي على اتخاذ هذا القرار. 

والنوع الثاني يشير إلى خطة اتفاق لتقاسم السلطة، وتمكين النظام، والتحرك الناعم لعسكرة الحكومة وتمكين النظام من كل مؤسسات التنفيذ وصناعة القرار، قبل الدخول للفصل الدراماتيكي المثير من صفقة القرن، ويشمل هذا النوع ما تحدث عنه “الخبراء الأمنيون” واصفين الإقالة بأنها مجرد عملية تغيير عادية في المراكز القيادية لضمان تنفيذ المهام بطريقة أكفأ، وتحفيز القيادات على العطاء، وتقديم صورة إعلامية بأن السيسي لا يجامل حتى اقرب المقربين، كمحاولة لتحسين صورة النظام قبل الانتخابات، كما يشمل السيناريو الأكثر إثارة المتعلق بتصنيع “بديل مدني” يصلح كاحتياطي لخلافة السيسي، أو الاتجاه لإعادة منصب “نائب الرئيس”، وهو اتجاه يليق بالعقلية العسكرية التي تعيد إنتاج تاريخها من دون تطوير كبير، وقد رأينا بأعيننا إعادة سيناريو 1954 الذي لوح به ممدوح شاهين والعصار في مؤتمر صحفي علني أثناء فترة حكم المجلس العسكري، فهل نرى في المرحلة القريبة المريبة إعادة سيناريو “ناصر وعامر”؟

(5)

الحديث عن سيناريو “ناصر وعامر” يناسب الأنظمة المحكومة بأوليغارشيا البندقية والمال، كما أشرت إلى روسيا، لكنني لا أميل إلى هذا السيناريو في مصر السيسي، أولا لأنه ليس ناصر، فهو مجرد ديكتاتور جاهل في الداخل، عميل خانع للخارج، يتبجح بالمعرفة والفهم بينما هو في حقيقته ضحل معدوم الرؤية. وثانياً لأن الزمن تغير، وتغيرت معه توجهات الدولة الوطنية، دولة الحرب التي تقود الصراع العربي مع الصهاينة، وأصبحت “شبه دولة” و”توكيلا محليا لجهات خارجية”، شركة تابعة تتاجر صباحاً في بضاعة السلام الدافيء، وتنام ليلاً على كتف نتنياهو، وتترك يدها لتنام كالعصفور بين يديه، بين يديه.

(6)

أياً كانت الأسباب التي أدت إلى إقالة حجازي، فالحذف هذه المرة ليس كما يتوهم السيسي وأنصاره، لمسة بسيطة لا تزيد عن “واو”، كما قال فتحي (أحمد رمزي في فيلم “بنات اليوم”)، لأن استبدال محمود حجازي بمحمد حجازي، ليس  مجرد “حذف واو”، لكنه شرخ في الثقة داخل مؤسسة خطيرة، كما أن الإقالة بهذا الشكل الغامض والمفاجيء تؤكد للشارع ما يشعر به ولا يراه من احتدام الصراع داخل النظام، كما تؤكد رغبة السيسي في الهيمنة على الدولة منفرداً، وسواء كانت الإقالة بالطلاق أو حيلة للاتفاق، أظن أن النتائج السلبية لهذه الإقالة على المستويين السياسي والعسكرية ستستمر في التفاعل الخفي، بكل ما يحمله ذلك التفاعل من قلق  ومخاوف لأنه يضرب هذه المرة في المناطق العميقة والمؤثرة من كيان النظام، وحتى يحين موعد ظهور هذه التفاعلات أتمنى أن تكون النتائج أنضج من ردود الأفعال الانتقامية التي تعيد انتاج “سلعة السلطة” على حساب حلم الدولة الدستورية العصرية، دولة المواطن.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه