مع القرضاوي (9) متى يكتب الشيخ؟!

وأذكر صحفيا أمريكيا زارنا في قطر، وطلب أن يقابلني بصفتي سكرتير الشيخ، وقد لاحظ كم المعلومات والأرقام التي يذكرها الشيخ في خطبة الجمعة، وكيف يكتب ويحاضر ويقوم بكل هذه البرامج.

 

 

العلامة القرضاوي غزير الإنتاج، فقد زادت كتبه على مئتي كتاب، ما بين مجلدات ضخمة ورسائل صغيرة، ومعظم كتبه من المؤلفات الكبيرة، بل والمهمة كذلك، سواء على مستوى عموم الناس من المسلمين وغير المسلمين، أو على مستوى المختصين والدارسين للإسلام، وهذا العدد الكبير من المؤلفات جعل كثيرين يتساءلون: متى يكتب الشيخ؟ وكيف يجد الوقت لكتابة كل هذا الكم من المؤلفات التي تشرق وتغرب، وترجم كثير منها إلى لغات كثيرة حية من لغات العالم؟ فكتابه الحلال والحرام مثلا ترجم لخمسين لغة ولهجة، فضلا عن كتب أخرى، ولا نجد مؤلفا ترجمت كتبه للغات كثيرة كالقرضاوي والغزالي وسيد قطب وابن تيمية.

كنا ننظر لعلماء سابقين من السلف الصالح، كيف استفادوا بأوقاتهم وتركوا هذا الكم الكبير من المؤلفات، فالإمام النووي الذي مات وعمره (45) عاما، يترك عددا من الكتب المهمة، كرياض الصالحين، والمجموع، وروضة الطالبين، والمنهاج، وشرح صحيح مسلم، وغيرها، كنا نقرأ عن هؤلاء، وقد جمعوا بين كثرة المؤلفات، وتلقي الناس لها بالقبول والعناية.

لكن كان السؤال يكثر ممن يقابلني ويعرف عن طبيعة عملي مع القرضاوي، ويسأل: متى يكتب كل هذا الكم؟ وأذكر صحفيا أمريكيا زارنا في قطر، وطلب أن يقابلني بصفتي سكرتير الشيخ، وقد لاحظ كم المعلومات والأرقام التي يذكرها الشيخ في خطبة الجمعة، وكيف يكتب ويحاضر ويقوم بكل هذه البرامج التلفزيونية، وكانت صدمته عندما علم أن معظم ما يقوم به الشيخ هو جهده العلمي!

وهذا ما جعلني أسأل الشيخ هذه الأسئلة: متى يكتب؟ وكيف يكتب؟ وكيف يختار عناوين كتبه وموضوعاتها؟ فالإجابة عن هذه الأسئلة تفيد المعنيين بالكتابة، وتفيد طلبة العلم في كيفية تحصيل العلم، والاستفادة به بشكل كبير. وقد أجابني الشيخ، وسأذكر إجاباته، ولكن مع تفاصيل أخرى لم يذكرها بحكم العمل معه، والملاحظة لما يقوم به.

متى يكتب القرضاوي؟

سألت الشيخ: متى تكتب؟ فأجاب: أكتب حين تلح على فكرة معينة، تتزاحم معانيها في خاطري وتصبح كأنها قوة آمرة لا أستطيع ردها.

أما كيف تنشأ هذه الفكرة، فقد تثيرها حادثة معينة أشهدها، أو تحكى لي، أو سؤال يوجه إلي، أو مقال أقرؤه، أو كتاب أطالعه، أو مناقشة أحضرها، أو نبأ مثير أسمعه أو أقرؤه، أو طلب من جهة معينة، أو من فرد أجد نفسى مهتما بالاستجابة له. كل هذا قد يثير في نفسي خواطر عندي فجأة أشبه بما يسمى (الإلهام) كما يلهم الشاعر والفنان.

المهم أنه عندما تصبح الفكرة في رأسي وتنضج، تلح عليً أن أفرغها على الورق، فأشرع في الكتابة، فيما يتاح لي من الوقت، من ليل أو نهار. والمعتاد أن أكتب بالنهار حتى منتصف الليل. ثم أنام وأستيقظ بعيد الفجر لأصلي ثم أنام عادة بعد الصلاة، حيث لا تكفيني الساعات القليلة التي أنامها قبل الفجر.

وأحيانا تسيطر على الأفكار وتتزاحم الخواطر، وتتوارد المعاني في الموضوع الذي أكتب فيه، فيصيبني الأرق، ويطير النوم من عيني، وأحاول أن أقتفي النوم، فيفر مني شاردا، فلا أجد بدا من القيام من الفراش، والنزول إلى المكتب لأسجل خواطري وأفكاري قبل أن تنفلت مني. وهذا يتكرر كثيرا معي. ولا سيما في الأوقات التي أكون مشغولا فيها في موضوعات أريد أن أتمها وأفرغ منها.

وقد تمر على بعض ليال لا أنام فيها أكثر من ساعتين، وربما لا أنام فيها أبدا.

وأنا معتاد أن أكتب كل يوم في الصباح نحو ساعتين قبل أن أذهب إلى عملي الرسمي، وأذهب من أجل ذلك إلى عملي متأخرا، لأني منذ أذهب إلى المكتب تشغلني الهواتف والزيارات والرسميات فلا تدع لي فراغا من الوقت.

كان الشيخ يأتي لمكتبه بمركز بحوث السنة والسيرة حوالي الساعة (11)، يجلس فيه للساعة الثانية ظهرا، ومعظم هذه الساعات تكون في مقابلات ولقاءات، سواء من عموم الناس، أو من الزائرين لدولة قطر رغبة في مقابلته.

وإن وجد الشيخ فرصة للكتابة أثناء دوامه الرسمي لا يدعها. وقد يكون مراجعة بعض ما كتب، أو تصحيح ما يكتبه الطابعون، أو الرد على سؤال عاجل، أو نحو ذلك، بل أحيانا تشغله فكرة ما بالكتابة، فيكون هناك صديق جاء لزيارته، فيكتب وينهمك في الكتابة، ولا يشعر بمن حوله، ثم بين فترة وأخرى ينظر إليك، ويقول: كيف حالك؟ ازيك وازي الأولاد؟ ويكتب، وينهمك مرة أخرى، ثم ينظر إليك بعد فترة من الكتابة، ويقول لك: هل شربت شيئا؟ فتقول مثلا: لا، فيقول: كيف هذا، لا يصح، يا فلان هذا الدكتور فلان صديقنا العزيز كيف تنسون الرجل وهو صاحب بيت بلا أي إكرام؟

والشيخ في أسفاره – وما أكثرها – ينتهز فراغا أو فرصة ليكتب، وقد حدثتني زوجته السيدة إسعاد (أم محمد) رحمها الله، أنه بعد زواجه وفي شهر العسل، كانت تقوم من النوم فتجده يمسك بالورق والقلم ويكتب، ونادرا ما يهتم بالترفيه ومتع الحياة. وكثيرا ما كنت أجد أوراقا لمطارات، وفنادق، ومطاعم في فنادق أو مناطق شتى، وقد كتب عليها الشيخ موضوعا، وفي مرة وجدت (منيو) قائمة طعام على ظهرها وقد كتب شيئا ضمن بحث أو مقالة، أو مبحث، وكنت أحتفظ بكثير من هذه الأوراق بعد طباعتها، فعندي أوراق باسم المعهد الديني في قطر، وأوراق بأسماء بنوك، وأوراق لفنادق، وأوراق تحمل أسماء مؤتمرات، يكون الشيخ حاضرا فيطلب ورقا للكتابة، فهي تدل على اغتنام الشيخ لوقته حتى لو كان في سفر، وتؤرخ لأين كتب الشيخ هذا المبحث من كتابه، أو هذا المقال.

البركة

ويكتب الشيخ في المطارات، حين ينتقل، أو ينتظر ما بين طائرة وأخرى، ويكتب في الطائرة وخصوصا عندما تكون الرحلة طويلة، وقد صحبت الشيخ في بعض السفرات، فكنت أنام معظم الرحلة، وهو مسكين يعاني قلة النوم، ولي معه ذكريات جديرة بأن تحكى في شكايته من قلة النوم، حتى أخبرني أنه يغبطني على سرعة النوم، أكون معه في الطائرة فأنام وأقوم فأجده قد سلمني أوراقا لموضوع قد كتبه وأنهاه، ولكنه يترك لي فراغات، فيكتب مثلا: هنا ينقل فقرة من كتاب كذا للعالم الفلاني، مقدار كذا، ويحدد الفقرة المطلوب نقلها، لتوضع موضع الفراغ، لأنه كتب، وليس مثلنا نفتح اللاب توب، أو الأيباد فنأتي بالنص من كتب التراث، لكن ذاكرته تسعفه باسم الكتاب، والموضع المطلوب، لنقوم بنقله.

وقد حكى لي شيخنا طرفة بخصوص كتابته في الطائرة، يقول: منذ مدة رآني أحد الأصدقاء المهتمين بالفكر والثقافة، وأنا منهمك في الكتابة في الطائرة المصرية الذاهبة من القاهرة إلى لندن، فسألني – وقد لمحت الدهشة في عينيه – أتكتب في الطائرة؟ قلت: نعم. قال: ومن دون مراجع؟ قلت: نعم من دون مراجع، معتمدا على المخزون العلمي في ذاكرتي، وليس كل ما يكتب يحتاج إلى مراجع. ولعل مما يساعدني أني أحفظ القرآن، وأحفظ من الحديث والمأثور الكثير، وما يحتاج إلى نقل معين أو توثيق، أرجئه إلى ما بعد عودتي.

قال صديقي: الآن عرفت سر هذا الإنتاج المكثف.

قلت: ولكن هناك شيئا لم تعرفه! قال: ما هو؟ قلت: شيء اسمه (البَرَكَة). وهي فضل من الله تعالى يهبه لمن يشاء من عباده.

قال: صدقت.

القرضاوي يغتنم كل فرصة، وكل دقيقة في حياته، ما بين قراءة، أو كتابة، أو أداء رسالته نحو دينه وأمته، ويحسن الاستفادة من كل ثانية في عمره. بارك الله فيه.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه