مع القرضاوي (5): معركة الشيخ مع بن علي تونس

فهذا موقف للقرضاوي مع بن علي حاكم تونس السابق، وله مواقف أخرى مع حكام آخرين، كالقذافي، وملك السعودية الراحل الملك عبد الله، وبشار الأسد.

 

في العام 1998م طلبت الأمانة العامة لمجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي سابقا، والمسماة حاليا منظمة التعاون الإسلامي، أن يكتب شيخنا القرضاوي في أحد موضوعين سيناقشهما المجمع في مؤتمر يعقد في المنامة بالبحرين، إما موضوع: الوحدة الإسلامية، أو: الإسلام والعلمنة. ومال الدكتور محمد الحبيب بن الخوجة رحمه الله أمين عام المجمع، أن يكتب القرضاوي في الموضوع الثاني.

في بادئ الأمر تردد القرضاوي في الكتابة، فقد كتب من قبل في الموضوع كتابا، بعنوان: الإسلام والعلمانية وجها لوجه، وكان بعد مناظرة في نقابة الأطباء شهيرة بين الإسلاميين والعلمانيين، مثل الطرف الإسلامي فيها: الشيخ محمد الغزالي، والقرضاوي، ومثل العلمانيين: د. فؤاد زكريا. وقد أراد القرضاوي أن يكتب الموضوع بتفصيل علمي، بعيدا عن جو المناظرات، وما فيه من ارتجال، فأصدر كتابه سابق الذكر.

توحش العلمانية:

بعد طول تفكير استجاب القرضاوي للكتابة، ولكنه ركز في هذه المرة على أن يتكلم عن توحش العلمانية وتطرفها، وكانت الأخبار وقتها تتواتر وتتوالى عن تطرف العلمانية في بلدين مسلمين: تركيا وتونس، في تركيا: التشدد العلماني ضد الحجاب، وكانت قضية النائبة التركية مروة قاوقجي ومنعها وطردها من البرلمان التركي بسبب حجابها، وظلت هذه المعركة مستعرة لفترة طويلة، ما جعل أردوغان يضطر -ـ قبل أن يكون رئيسا لتركيا – إلى إرسال ابنته للدراسة في أمريكا حتى لا تجبر على عدم ارتداء الحجاب في الجامعة.

وفي تونس كان زين العابدين بن علي رئيس تونس السابق الذي قامت عليه ثورة الياسمين في تونس، معروفا بتوجهه المتشدد مع الإسلاميين، ومع مظاهر الالتزام الإسلامي، والحرب الشعواء على هذه الشعائر ومن يقوم بها، والملاحقات الأمنية لكل من يبدو عليه أي مظهر منها.

كتب القرضاوي بحثه، وجعل عنوانه: التطرف العلماني في مواجهة الإسلام، وكان الوقت ضيقا فلم يكتمل بحث القرضاوي، ظللنا نعمل فيه، إلى آخر ساعة قبل سفره في أكتوبر/تشرين الأول 1998م إلى البحرين، حتى أدركه الأخ الكريم عبد الله الخلف – الباحث بمركز بحوث السنة والسيرة الذي يديره القرضاوي – بالبحث على سلم الطائرة. وقد ترك لي الشيخ رسالة بما ينبغي علينا عمله في بقية الكتاب، نظرا لانشغاله وقتها بإنهاء كتاب: (الإخوان المسلمون سبعون عاما في الدعوة والتربية والجهاد) لإرساله إلى القاهرة للطباعة.

سافر الشيخ، وعقدت الجلسة المقررة، وألقى بحثه ملخصا، وعندما جاء الحديث عن تركيا وتونس، لم يعلق العضو الحاضر عن تركيا، وسكت، ولكن عند الحديث عن تونس، تحفز التونسيون الحاضرون للحديث، وبعد انتهائه من الكلمة، فتح باب المناقشة، فكان أول من عقب على القرضاوي، الشيخ محمد المختار السلامي مفتي تونس، وأن على العلماء أن يقدروا الكلام ومآلاته، وأن مسجده الذي يصلي فيه في تونس يزداد المصلون فيه يوما عن الآخر.

وقد ذهب الشيخ عبد الله بن بيه، ليقنع مشايخ تونس وغيرهم من المغاربة الذين ثاروا على كلام القرضاوي، وقال لهم: كان أولى بكم الصمت، إذا لم تستطيعوا التعبير عن موقفكم، وموقف الحق في بلادكم، وقد كفاكم القرضاوي بكلامه هذا الأمر، فهو ضمير الأمة اليوم ولسانها المعبر عنها.

طلب سحب البحث:

كانت كلمة القرضاوي صباح الأحد، فألقى كلمته وجاء لقطر، لارتباطه مساءًا ببرنامجه الأسبوعي في قناة الجزيرة (الشريعة والحياة)، واشتعلت المعركة، بين تعقيب وسعي ضد بحثه، فقد سعى السفير التونسي في البحرين إلى مملكة البحرين يطلب سحب بحث القرضاوي، بل معلوماتي بعد ذلك أن بن علي نفسه تدخل لدى البحرين، وطلب ذلك من قطر، أن يسعوا لأن يسحب القرضاوي بحثه، أو أن يسحب البحث. ولم يستجب أحد لذلك، فلم تقع ضغوط على القرضاوي من قطر، ولم تقبل البحرين وقتها أن تضغط لسحب بحثه، وهذه شهادة للتاريخ.

لم ينته الأمر عند ذلك، فقد شكك المشككون في معلومات القرضاوي حول تونس، وأنها معلومات غير دقيقة، واتصلت من السفارة التونسية في الدوحة سكرتيرة السفير، اسمها: (عايدة)، ورددت على الهاتف، فقالت معك: عايدة من مكتب السفير التونسي، نريد أن نرسل لمكتبكم أوراقا، وهدية للشيخ، فأعطيتهم العنوان.

كانت الهدية عبارة عن كتاب: (التحرير والتنوير) لعلامة تونس الشيخ الطاهر بن عاشور، وهو تفسير القرآن المعروف بتفسير ابن عاشور، ومقالات معظمها كتبها الأستاذ محمد الهاشمي الحامدي، الذي كان معارضا لبن علي، ثم تحول لمؤيد ومحام عنه، وقد كان من أبناء الحركة الإسلامية، وكان على صلة بالقرضاوي قبل تحوله.

كانت مقالات الحامدي والمقالات الأخرى والصور عبارة عن دفاع عن بن علي، وعن تدينه، وصلاحه، وأنه يحرص على أداء شعيرة الحج، ومع المقالات صور لبن علي يرتدي مشاعر الإحرام في البيت الحرام، المنهج والأسلوب نفسه الذي يتبعه كثيرون من الحكام المستبدين، بتجميل صورتهم، ومعها بعض أخبار عنهم كذلك.

التوقيع بالاستلام:

كان من حمل الهدية والمقالات، الأكاديمي التونسي المعروف دكتور أحمد القديدي، وسلم بحفاوة على القرضاوي، وقال: هذه مولانا هدية وأمانة طلب مني أن أوصلها لسماحتكم، رحب به الشيخ، وفوجئنا بطلب يقوله القديدي على استحياء، فقال: مولانا السفارة طلبوا أن توقع باستلام الهدية. فكرت وقتها لثوانٍ معدودة: لماذا يطلب من شخص يتسلم هدية أن يوقع بالاستلام، وهي ليست هدية مادية ذات قيمة، إنما هي هدية معنوية، والكتاب غالبا عند القرضاوي؟ عندئذ قفز لذهني أنه إثبات يخرج في وقت ما، فطلبت من القرضاوي أن أوقع أنا بالاستلام، فوقعت وجئت لأكتب العبارة: استلمت أنا عصام تليمة، فقال لي القرضاوي: هذه صيغة خطأ، استلمت يعني قبّلتُ، إنما قل: تسلَّمت، قلت له: كيف يا مولانا، قال: ألا نقول: استلمت الحجر الأسود، أي: قبلته.

ثم اقترح القديدي أن يرسل لهم الشيخ رسالة شكر على الكتاب، يكون هذا من الذوق المعهود منه، والرجل نيته صادقة وهو رجل ذوق ومشهود له بالخلق، لكن تعامل السفارة لم يكن مريحا في هذا الأمر، فليس من عادة الدبلوماسيين الإهداء، والتوقيع بالاستلام. فقال لي الشيخ: اكتب لهم رسالة شكر، جلست ساعة أحاول الكتابة فلم أفلح، ولم يفتح علي بكلمتين. فقلت للشيخ، فقال: أكتب أنا، وظل الشيخ يمسك بالقلم، يكتب ويمحو، يكتب ويمحو، لعشر دقائق، ثم نظر إلي وقال: لا أدري ماذا أكتب لهؤلاء الناس؟ وبعدها كتب عبارات مقتضبة، يشكر على الكتاب الهدية.

ثم جاء بعض الإخوة التوانسة ممن لهم اطلاع على الملف في تونس، وأمدوا الشيخ بكمية وثائق هائلة حول الوضع في تونس، وكان من يتواصل ويجمع ويأتي بها للشيخ هو الدكتور عبد المجيد النجار، الذي كان وقتها أستاذا في كلية الشريعة بجامعة قطر، وقد عزم الشيخ على توسعة البحث ليصبح كتابا، وأن يزيد من الكلام عن العلمانية المتطرفة في تونس وتركيا وقتها، مع تطعيم البحث بوثائق عن الوضع في تونس.

اتصلت بعدها سكرتيرة السفارة التونسية تطمئن على وصول الهدية والمقالات، فأخبرتها بأنها وصلت، وقالت: هل غيرت المقالات من رأي الشيخ؟ قلت لها: نعم، الحمد لله غيرت، لقد كان كلام الشيخ عن تونس بضع صفحات، وقد نوى أن يزيدها إلى حوالي ثلاثين صفحة، فصدمت!

بعدها بحوالي شهرين، جاءت مناسبة عيد الفطر، فأرسل السفير التونسي في الدوحة السفير: محمد البلاجي برسالة تهنئة بالعيد للشيخ، وكتب فيها هذه الجملة: (وفي إطار سعيكم الدؤوب والمشكور للتعريف بقيم الإسلام الوسطية السمحاء، وإثراء لمعلوماتكم ببعض ما ينشر حول المجتمع التونسي وما ينجز في تونس لإعلاء شأن الإسلام وترسيخ قيمه الخالدة، يشرفني أن أعرض على فضيلتكم من حين لآخر بعض الإصدارات في هذا المجال شاكرا لكم موصول عنايتكم، ومتمنيا لكم دوام التوفيق لما فيه خير الإسلام والمسلمين).

عتاب التوانسة:

العجيب أني قابلت عددا من الإخوة التوانسة في قطر بعد ذلك، وكانوا عاتبين على القرضاوي ما كتبه عن تونس، فقد صور لهم بعض أتباع نظام بن علي أن ما كتبه القرضاوي وصف الشعب التونسي بعدم التدين، وأن الدين في تونس محي، أو يكاد، ولم يكن يعلم كثير منهم أنه يصف النظام لا الشعب.

نشر الكتاب بعد ذلك، وقد جعل الشيخ عنوانه: (التطرف العلماني في مواجهة الإسلام: نموذج تركيا وتونس)، ليكون النص في العنوان على النموذجين التركي والتونسي، وكانت الطبعة الأولى، في دار تسمى (أندلسية) صاحبها شاب من شباب الإخوان، أراد أن يبدأ مشروع دار طباعة بكتاب للشيخ يشجعه على العمل، ورغم أن صاحب الدار شاب وغير مشهور، وليس معروفا بشكل قوي للشيخ، والدار جديدة، فإن الشيخ قبل من باب تشجيعه. ولكن بعد الطبعة الأولى أعطى الكتاب لدار الشروق في مصر لطباعته، لأسباب وظروف لعلي أتحدث فيها عن علاقة الناشرين بالقرضاوي.

فهذا موقف للقرضاوي مع بن علي حاكم تونس السابق، وله مواقف أخرى مع حكام آخرين، كالقذافي، وملك السعودية الراحل الملك عبد الله، وبشار الأسد، وغيرهم، يأتي الحديث عنها – إن شاء الله – بتفاصيله.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه