مع القرضاوي (2).. الاتفاق على العمل سكرتيرا للشيخ
ذكرت في مقالي السابق كيف تم التعارف بيني وشيخنا القرضاوي، ثم بعد أول زيارة شخصية له في بيته في القاهرة، بعدها بشهور حدث خلاف شديد في مصر بين جبهة علماء الأزهر، والدكتور حسن حنفي أستاذ الفلسفة المعروف، فقد زار كلية أصول الدين بجامعة الأزهر بالقاهرة، لإعطاء محاضرة عامة، بدعوة من الدكتور عبد المعطي بيومي رحمه الله، وكان ذلك سنة 1997م، وجبهة علماء الأزهر هي جمعية أزهرية أنشئت في نهاية أربعينيات القرن العشرين، وكان لها دور مهم، تحتاج لحديث منفصل عنها، وعن دورها، وكيف اقترح الشيخ جاد الحق علي جاد الحق رحمه الله إعادتها للوجود والعمل والنشاط، وقام بذلك مجموعة من علماء الأزهر في منتصف تسعينيات القرن الماضي، وكان أول نشاطها محاضرة في الجامع الأزهر عن الفتوى للدكتور أحمد طه ريان حفظه الله.
ثار جدل وخلاف حول محاضرة حسن حنفي، واعترض الدكتور يحيى إسماعيل – أمين عام الجبهة آنذاك – على زيارة حنفي للأزهر، وأن مؤلفاته بها أفكار تتعارض مع ثوابت الإسلام، وثار الخلاف وقتها، وتولى جبهة الدفاع عن حنفي: عبد المعطي بيومي، وتولى جبهة المعارضة: يحيى إسماعيل، ثم تطور الأمر ودخل الإعلام في المعركة، وأدى ذلك إلى كتابة الجبهة كتابا عن أفكار حسن حنفي، تولى كتابة القسط الأكبر منه يحيى إسماعيل.
وجاء القرضاوي لزيارة القاهرة في صيف 1997م، ورأى آثار المعركة مستمرة، ويبدو أن القرضاوي سئل عن رأيه، وكعادته يطلب الاطلاع على التفاصيل، وفعلا طلب من جبهة علماء الأزهر أن يرسلوا له ملفا كاملا بالموضوع، سألني أمين عام الجبهة (يحيى إسماعيل): هل تعرف بيت الشيخ القرضاوي؟ قلت: نعم، قال لي: خذ هذا الملف وأعطه له. وكنت وقتها أعمل سكرتيرا علميا للجبهة لعدة شهور.
ذهبت في الموعد لبيت القرضاوي، وقد مر على لقائنا الأول عام كامل، جاء الشيخ، وفوجئت به يناديني باسمي: ازيك يا شيخ عصام؟ كنا نسمع عن ذاكرته الحديدية ما شاء الله، لكن لم أكن أعلم أنها لهذه الدرجة من القوة، ثم بعد عملي معه اكتشفت أنه يحفظ أرقام هواتف أيضا في مصر وقطر ولا يحتاج لنوتة الهاتف، ثم حدث شيء آخر دلل على قوة ذاكرة القرضاوي، فقد كنت في هذا الوقت أقوم بجمع تراث الشيخ حسن البنا، ومعي بعض نماذج لتحقيقي لها، وكنت قد غيرت بعض العناوين لمقالين منهما، فوجئت بالشيخ يقرأ المقالين، ويقول لي: لكن أنا قرأت هذه المقالات سنة 1947م في جريدة الإخوان المسلمين اليومية، ولم تكن تلك عناوينها، بل كانت عناوينها كذا، وذكر فعلا العنوانين الحقيقيين!!
ثم دار الحوار عن معركة جبهة علماء الأزهر وحسن حنفي، وكان الجو مشحونا وقتها بحكم إثارة الإعلام للموضوع، فعلم الشيخ أن أحد مشايخ الجبهة سيكتب كتيبا لمناقشة أفكار حسن حنفي، ففاجأني كلام الشيخ، بأنه قال لي: ومن سيناقش حسن حنفي؟ يا عصام، تكوين حسن حنفي واهتماماته تختلف عن تكوين المشايخ وكتاباتهم، فكيف سيناقش المشايخ رجلا درس المناهج الفلسفية والغربية، والتكوينان مختلفان تماما؟! إن الأمر غير متكافئ علميا.
ثم قال القرضاوي: ولماذا هذا الصدام المتعجل من جبهة علماء الأزهر، مع قضايا يتسع لها ساحات البحث العلمي، ولا داعي لساحات الإعلام. كان هذا رأي القرضاوي في هذا الخلاف، وفي مواقف أخرى فيما بعد كان له أيضا رأي في بعض المعارك العلمية والفقهية للجبهة اختلف معها، بل ناقش في بعضها، لعلي أذكر وقتها تفاصيل النقاش، وقد دار أحدها في بيت شيخنا الشيخ عبد المعز عبد الستار في قطر. ثم وساطة القرضاوي في محاولة حل نزاع كان بين شيخ الأزهر د. محمد سيد طنطاوي، ودكتور يحيى إسماعيل، وصل هذا النزاع لساحات المحاكم المصرية.
ثم سألني الشيخ: وما علاقتك بالجبهة؟ قلت له: أنا أعمل حاليا في فترة الصيف في الجبهة، وفي وقت المدارس أعمل مدرسا بالحصة، لأني ممنوع من التعيين في وزارة الأوقاف، بناء على تحريات أمن الدولة عني، فأنا مرفوض أمنيا. فقال الشيخ: أحسن. قلت له: أحسن؟! انت فرحان في يا مولانا؟ فضحك الشيخ، وقال: ستعرف لماذا قلت لك أحسن. أنا أبحث عن سكرتير علمي، ما رأيك أن تعمل معي؟ ادعيت السذاجة وقلت له: أين، في مصر؟! قال: لا أنا لست مقيما في مصر، أنا مقيم في قطر. كنت فرحا بهذه الفرصة التي جاءت بقدر الله، دون ترتيب من الشيخ ولا مني، ودون وساطة مخلوق. بل جاء بها حوار عفوي تماما بيني والشيخ.
وأقول هذا الكلام وأؤكده، لأنه يشاع بين الإخوان معلومة غير صحيحة عن طبيعة عمل مكتب القرضاوي، وهي: أن الإخوان ترشح له من يعمل معه، وأن الإخوان تقوم برعاية أهل العلم الشرعي فيها، ومن يبرع منهم، تقوم بتزكيته للقرضاوي ليعمل معه، وهو كلام عاري تماما عن الصحة، ولم يحدث معي، ولا مع غيري، فالأخوان الكريمان الدكتور أكرم كساب، والأستاذ وليد أبو النجا، كان انضمامها لمكتب الشيخ باقتراح مني للشيخ، وبقناعته الشخصية بعد ذلك، وليس للإخوان أي علاقة بمكتب الشيخ عملا، ولا إدارة، ولا ترشيحا.
ثم طلب مني الشيخ صورة جواز السفر، وصورة باللحية، قلت له: بالزي الأزهري، قال: مش مهم الزي المهم باللحية، لأنك ستأتي على وزارة الأوقاف القطرية، وهي تشترط اللحية وأنت ملتحي طبيعي. ثم قال: هناك خلاف بين مصر وقطر، وتأشيرات المصريين ممنوعة، لكن سأتكلم في موضوعك، وإن شاء الله يكون الخير، فجهز نفسك. ثم سألني: هل تعرف كمبيوتر؟ قلت له: يا مولانا أنا معرفش أفرق بين شاشة التلفزيون وشاشة الكمبيوتر، لكن عندي استعداد للتعلم، فقال: على إنهاء التأشيرة، وعليك تعلم الكمبيوتر.
ذهبت في اليوم التالي لإعطاء الأوراق المطلوبة للشيخ، فاستقبلني ابنه الأوسط – وصديقي العزيز فيما بعد – الشاعر: عبد الرحمن القرضاوي، المعروف بعبد الرحمن يوسف، وقال: الوالد كلمني عنك، ويثني عليك كثيرا، وإن شاء الله تتيسر الأمور وتلحق به على قطر، وكان عبد الرحمن وقتها مقيما في القاهرة يدرس الماجستير، أعطيت له الأواق، وودعت الشيخ، وقال لي: متابعة أمورك ستكون مع عبد الرحمن ابني. وأعطيت رقم جيراني له، فلم يكن عندي تليفون وقتها.
وسافر الشيخ إلى قطر، ومرت شهور، وكلما اتصلت بعبد الرحمن يقول لي: اصبر، الأمور فيها بعض التعقيدات والمشاكل، نظرا للمشاكل السياسية بين قطر ومصر، ولكن الشيخ يعمل على حلها، ثم جاء شهر يونيو سنة 1998م، وفي يوم 26 منه، اتصل بي عبد الرحمن، وقال لي: الشيخ حجز لك تذكرة على خطوط طيران الخليج يوم الأحد القادم 28 يونيو إلى قطر، اذهب إلى مقر الشركة في ميدان التحرير لتأخذ التذكرة، وتأشيرتك موجودة في مطار الدوحة.
سألته: ومن يستقبلني؟ قال: الشيخ. قلت له: من؟! قال: الشيخ سيستقبلك في المطار. ولأن الأمر بالنسبة لي صعب أن أفهمه، قلت له: كيف؟ قال: هذا ما أبلغني به الوالد، فقد كنت أتصور أن مكانة الشيخ تستدعي أن يرسل أحدا، يرفع ورقة عليها اسمي، ولكن أن يصل به تواضعه لاستقبال شاب في سن أصغر أبنائه، وجاء للعمل معه سكرتيرا خاصا، فلم يدر ذلك بخلدي. ولكني أشهد شهادة لله من خلال معرفة به تقارب الربع قرن: هذا ما عهدته منه خلال عملي فيما بعد، على قدر جلالة قدره، ومكانته، على قدر عظيم تواضعه مع الجميع، من يعرف ومن لا يعرف.
سافرت إلى قطر، وذهبت للمطار، ونزلت، ولم أجد مولانا الشيخ، فقد جد في الأمر شيء، لقد دخل الشيخ غرفة العمليات، في نفس توقيت وصول طائرتي للدوحة، لعمل عملية في العين، لسحب مياه بيضاء على عين الشيخ. ووجدت مندوبا عن وزارة الأوقاف القطرية يستقبلني، ثم أوصلني لسكني في منطقة ابن عمران، وفي اليوم التالي حدد لي موعد زيارة الشيخ في مستشفى حمد، ثم لأبدأ رحلة عملي كسكرتير علمي وخاص للشيخ القرضاوي.
المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه