مع القرضاوي (13) كتب يتمنى الشيخ كتابتها

 

رغم أن كتب العلامة القرضاوي قاربت المائتي كتاب، تنوعت بين عدد من مجالات التأليف الفقهي والفكري، والعلمي بوجه عام، فكتب في التفسير والحديث وعلومهما، والفقه الإسلامي، وأصول الفقه، والأدب والشعر، والفقه السياسي، ومجالات أخرى.

لكنه يتمنى أن يكتب في موضوعات لديه فيها أفكار مهمة، وربما أوراق كتبها، أو مادة علمية جمعها حول الموضوع، وبقي أن يجمع شتاتها، ويؤلف بينها، وينتهي منها. وقد قال السلف الصالح: يموت العالم وفي بطنه مائة علم لم يكتبه، وعلق على ذلك العلامة الراحل الشيخ عبد الفتاح أبو غدة قائلا: وأنا أموت بإذن الله وفي بطني ألف علم لم يكتب. أي أن العالم يظل طوال حياته لديه أفكار وكتب يتمنى كتابتها، وأن يسعفه الزمن لكتابتها.

ولدى القرضاوي كتب من هذا النوع، لكن الفرق بينه وبين الآخرين: أنه وضع مسودات وأفكارا لهذه الكتب والبحوث، أو مكتملة العناصر في رأسه، لكن يحتاج للوقت الذي يكتب فيه ما لديه. وعندما كنا نرتب مكتبته منذ (15) عاما، عندما انتقل من بيته القديم في منطقة (الدفنة) في قطر، إلى منطقة (وادي السيل) خلف مبنى الحماية المدنية (المطافئ)، فوجدت ما يملأ ثلاث كراتين كبار من كتب الشيخ المكتوبة والتي لم تنته بعد، ووجدت مسودات كتب، ومسودات بحوث.

وبعدما نظرت في هذا الكم من الخطط المعدة لبحوث وكتب، وما شرع في كتابته بالفعل، ومرت السنوات، ولم أجد عددا مما رأيت قد خرج، فسألته: ماذا تتمنى لو اتسع لك الوقت أن تبادر بكتابته الآن؟

الكتب الثلاثة

فقال: أتمنى أن أنتهي من ثلاثة كتب مهمة بالنسبة لي، كتاب في أصول الفقه، وكتاب في السيرة النبوية، وكتاب تفسير على هامش المصحف.

وتحاورت مع شيخنا حول الكتب الثلاثة، وكيف نيسر له إنجازها، وقد كان ذلك في عام 2013م، وقلت له: ليتك تبدأ بالتفسير الذي على هامش المصحف، وقمت بتصوير صفحات من المصحف على ورق كبير مقاس (A3) وجعلت صفحة المصحف مصغرة، بحيث يوجد فراعات للكتابة على أطراف الصفحة، لتكون نموذجا يعمل عليه الشيخ، وقد كانت الفكرة ألا يكتب الشيخ تفسيرا للقرآن، بل تأملاته الشخصية، والتي تعتبر ختام حياته العلمية، وتأملاته هو، لا يرجع فيها لأي كتب، ولا يرجع لأي مراجع سابقة، ولا ينقل منها، بل فقط ما خرج به من تدبر لكتاب الله، وهو مهم وكثير بالنسبة للقرضاوي.

وبدأ يعمل الشيخ مبتدئا بجزء (عم) الجزء الثلاثون من القرآن الكريم، وفوجئت بأن الشيخ بدأ باختصار، ثم توسع بشكل أشبه بتفسير عادي كبقية التفاسير، ثم جزء (تبارك) بنفس الطريقة، على غير ما يريد وما خطط له نفسه، ولما سألته، قال: كتبت ولكن الكتابة كعادتها معي توسعت، وللأسف ضاعت الفرصة المهمة والثمينة للقرضاوي ليتفرغ في تأملاته وتدبراته الخاصة مع القرآن، وما أكثرها، وهو ما نلاحظه في لفتاته الفقهية والفكرية في كثير من النصوص، مما خصه الله عز وجل بها، ولا يزال هذا المشروع كما هو لم يتم، نظرا لأن ما أخرجه القرضاوي من كتابين لا يعبران عن الفكرة التي نريد.

أما كتابه في أصول الفقه، فتحاورت معه أيضا، فقال: إن كثيرا من موضوعات الكتاب كتب فيها، كالاجتهاد، وكيف نتعامل مع القرآن، وكيف نتعامل مع السنة، وموضوعات أخرى، وبقيت موضوعات معينة عليه أن يكتبها، ليتمم نظراته وموقفه العلمي من قضايا أصولية مهمة، له فيها رأي، وأعتقد أنه جديد وجدير بالكتابة.

مقاصد الشريعة

والشيخ في جلساته الخاصة يدلي بأفكار، ويفصل ويسهب فيها، وليست مدونة في كتبه، وعند كتابته في الموضوع ذاته، أحيانا تجد الكتاب قد خلا من هذه الأفكار، أذكر نموذجا لذلك، فقد أجريت عملية جراحية للشيخ في مارس سنة 2003م، في ركبتيه، وعند زيارتي له، سألته: يا مولانا اعتدنا منك أن تكتب الشعر في إحدى حالتين: السجن، أو المرض، والسجن قد عافاك الله منه والحمد لله، والآن ابتلاك الله بهذه الجراحة، فهل تكتب الشعر الآن؟ فقال لي: لقد تركت الشعر. فقلت له: ففيم تفكر وليس لديك الآن القدرة على الكتابة؟

فقال: كنت الليلة مشغولا بفكرة عن مقاصد الشريعة، وتأملت في أن لكل مخلوق خلقه الله في هذا الكون مقصد، يعمل لأجله، ويسعى لتحقيقه، فالحيوان له مقصد، والجبال لها مقصد، والنمل له مقصد يعمل لأجله، وظل يشرح في الفكرة بكلام لم يكتبه من قبل. وعندما كتب كتابه عن (مقاصد الشريعة) لم أجد هذه الفكرة، فقد نسيها عند الكتابة، وجل من لا يسهو.

ومن ذلك: أفكار له مهمة في الأصول، نتمنى أن يمد الله في عمره ليكتبها، فهي قضايا حساسة جدا، وكلمة القرضاوي ذات قيمة فيها، من هذه القضايا: قضية رأيه في الأمر والنهي في السنة، فالقرضاوي يرى أن الأمر في السنة للاستحباب، والنهي للكراهة، إلا إذا جاءت قرينة تصرفه عن ذلك، على خلاف الأمر والنهي في القرآن، فهو يرى أن الأمر في القرآن للوجوب، والنهي للتحريم، إلا إذا جاءت قرينة تصرفه، وله أدلة على رأيه في السنة وأنه للاستحباب لا للوجوب الذي يذهب إليه كثير من العلماء، وعند الحديث في الموضوع أراه يأتي بأدلة كثيرة تؤكد صحة رأيه.

بل أذكر أني رتبت لقاء لأحد أصدقائنا من طلبة الدكتوراه في الأزهر، وكان يريد البحث في هذا الموضوع، فأعطاه الشيخ أفكارا ومحاور مهمة، وكان من أهمها أنه قال له: انظر إلى كتاب (رياض الصالحين) للإمام النووي، ستجد في عناوين النووي ما يؤكد ذلك، ستجد معظم الأبواب: باب كراهية كذا، باب استحباب كذا، ستجد معظم هذه الأوامر والنواهي من السنة وليست من القرآن، وأبواب التحريم، ستجد فيها النصوص المعتمدة من القرآن.

السيرة النبوية

أما كتابه الذي يريد أن يكتبه عن السيرة النبوية، فسألته عما يريد كتابته، فقال لي: لا أريد أن أكتب السيرة من أولها إلى منتهاها، بل أريد كتابة السيرة على هيئة موضوعات، مثل: محمد والجمال، محمد المربي، محمد العسكري، محمد السياسي، وهكذا، قال: أقرب إلى كتاب: (عبقرية محمد) للعقاد، وقد حاول الشيخ البدء في ذلك عن طريق سلسلة خطب الجمعة في مسجد عمر بن الخطاب، في عدة خطب، لكنه لم يكمل، نظرا للأحداث التي تجبره على الحديث عنها، ولكن لم يشرع فيه الشيخ ولم يكتبه للأسف.

وهناك سلاسل من الكتب بدأها ولكنه لم يكملها، يتمنى القرضاوي أن تتم، مثل: سلسلة شرح الأصول العشرين للإمام حسن البنا، والتي أنهى معظمها، وبقي القليل جدا منها، وقد رأيت ضمن أوراقه، ملفات معدة لبقية الأجزاء، وبخاصة الأصل الأخير، الخاص بالتكفير، فوجدته جمع ملفا هائلا فيه.

وسلسلة تيسر فقه السلوك، والذي كتب فيه عدة كتب، مثل: الربانية والعلم، والتوكل، والنية والإخلاص، والتوبة إلى الله، والزهد والورع، وبقيت موضوعات أخرى عنده أيضا موجودة في ملفات.

وسلسلة تيسير الفقه، والتي أنهى منها: أصول الفقه الميسر، وفقه الطهارة، وفقه الصيام، كان قد اختصر كتابه: (فقه الزكاة) ليضعه في السلسلة، ولكنه مفقود، ولم يعثر عليه للأسف، وموضوعات أخرى أيضا لدى الشيخ ملفات لها، أو خطة بالموضوع، أو أوراق متناثرة فيه.

وقد بدأ الشيخ سلسلة التفسير الموضوعي في القرآن الكريم، وأخرج منها: الصبر في القرآن، والعلم والعقل في القرآن، وسألته: هل عندك موضوعات أخرى في التفسير الموضوعي للقرآن؟ فقال: عندي عشرات الموضوعات جاهزة، ولكن يعوقني عن القيام بها ضيق الوقت. قلت له: عشرات؟! قال: نعم، عشرات الموضوعات، وجاهزة في رأسي بكل تفاصيلها، وربما أجلس لأكتب خطتها ومفرداتها.

هذه كتب يتمنى القرضاوي كتابتها، نسأل الله أن يبارك في عمره لإنجازها، وهي تدل على همة الرجل في العلم، فمجرد كتابة عناوين هذه الموضوعات، والتفكير فيها تحتاج لوقت طويل، فضلا عن كتابة عناصرها، وجمع مادتها وكتابتها، ولذا سألته: وهل تنوي كتابة كل هذا يا مولانا؟ قال: أرجو ذلك وأدعو ربي بالعون، وإن لم أوفق لذلك، فهي أمانة في عنق تلامذتي يكملوا ما بدأت، وهي وصيتي لهم.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه