مع القرضاوي (11) كيف يكتب الشيخ؟

الشيخ يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

تحدثت في حلقة سابقة عن: متى يكتب القرضاوي؟ وكيف يستفيد بكل دقيقة في حياته، وكيف يملؤها عملا وعلما، واليوم أتحدث عن: كيف يكتب القرضاوي؟ ما الطريقة التي يتبعها في الكتابة؟ وكنت قد سألت الشيخ كل هذه الأسئلة، وأنقل هنا إجابته، مضافا إليها ما عشته معه في طريقته في العمل والكتابة.
القرضاوي يكتب عندما يختار موضوعا للكتابة فيه، يقسمه مبدئيا إلى محاور أو أبواب أو فصول، وقد يكرّ على هذه المحاور بالزيادة أو بالحذف، أو الإدماج أو التحوير، حتى تستقر تماما في ذهنه، ويكتبها مبدئيا في ورقات صغيرة، يكتب المحاور، والعناصر، كتقسيم لها، وأحيانا يبدأ الكتابة، ثم تزداد المحاور ويضاف إليها محاور أخرى، قد تكون أحيانا ضعف ما كتب، وأحيانا تكون فصلا أو مبحثا في الكتاب.
ثم يفتح لهذا الموضوع (ملفا) يضع فيه من النقول المختلفة كل ما يرى أنه يخدمه، ويفيد ما كتبه، إنشاءً جديدا، أو تقوية لرأي قديم، أو ترجيحا له، بأدلة جديدة تلوح له. كما يضع في الملف كل ما يتراءى له من العناصر التفصيلية في كل محور من المحاور. 

 

محاضرة في موضوع البحث

وكثيرا ما يحاضر في موضوع الكتاب أكثر من مرة، ليثرى ويتسع بالأسئلة والمناقشة حوله من الحضور، وخصوصا بعد المحاضرة، وقد يترتب على هذه المناقشات إضافة عناصر جديدة، أو حذف عناصر قديمة، أو إعادة ترتيب الأفكار، أو نحو ذلك، وقد حدث ذلك في أكثر من كتاب للشيخ، منها كتابه: (الصحوة الإسلامية بين التفرق المذموم والاختلاف المشروع)، وكتاب: (في فقه الأولويات) وكتب أخرى، كانت معظمها مشروع بحث، ثم تحولت لكتب، بناء على محاضرة ألقاها الشيخ ثم تحولت لكتاب كبير مؤصل، بناء على نقاشات مع الحضور من المحاضرة.
وقد يشرع الشيخ في الكتابة في أي محور من المحاور حسبما يفتح عليه، قد يكون ذلك في أول المحاور، وقد يكون في أوسطها، وقد يكون في آخرها. وما يكتبه يضعه في الملف، حتى يكتمل، ويصبح كتابا.
وأحيانا يظل الكتاب عند الشيخ لسنوات يبقى على أمل أن يكتب له مقدمة، أو يراجع مبحثا فيه، وهذا مثل كتابه: (في أصول الفقه الميسر)، فقد كان كتابا منتهيا، ووجدته بين أوراق الشيخ، فسألته: لماذا لا تنشره وقد انتهى؟ فقال لي: أريد النظر فيه، فوجدته قد كتب مقدمته، وأنهاه منذ عشر سنوات، فأخذته وسلمته للطباعة لناشر كتبه: الحاج وهبة رحمه الله، وقلت: يا مولانا، يطبع، ثم عند المراجعة والبروفات يمكنك إضافة ما تريد، وبعدها فوجئت بالحاج وهبة يقول لي: لقد أضاف الشيخ ما يقرب من ثلث الكتاب، وهو مقدمة عن: أهمية العلم.
ولما سألت الشيخ عن سر هذه الإضافة؟ فقال: إن هذا الكتاب كان من المفترض أن يكون أول جزء في سلسلتي: تيسير الفقه للمسلم المعاصر، ولكن لانتظاري أن أراجعه، بقي، وخرج كتابي: (فقه الصيام) قبله، وكان الأولى أن يسبقه كتاب الأصول، وكتاب الطهارة، والصلاة، ولكني أخرجت ما انتهى، ثم أردت أن أبدأ السلسلة بباب العلم، تأسيا بالإمام أبي حامد الغزالي رحمه الله الذي بدأ موسوعته الكبرى المهمة: إحياء علوم الدين، بكتاب العلم.

 

كتب مركونة بسبب الأسفار

وهناك كتب بقيت مركونة عند الشيخ فترة طويلة، قد تكون عدة أشهر، وقد يظل مفتوحا عدة سنين حتى يأتي أوانه المقدور له عند الله. ومن هذه الكتب: الجزء الرابع والأخير من سلسلة (حتمية الحل الإسلامي): أن بعض فصوله كتبت منذ نحو ثلاثين سنة، وأن كثيرا ممن بيضوا هذه المسودات التي كتبتها قديما من زملائي بالمعهد الديني بالدوحة، قد انتقلوا إلى رحمة الله.
ذلك أن الشيخ يفكر في الكتاب، ويبدأ في كتابة بعض فصوله، ثم يشغل بأمر آخر، ثم آخر وآخر، وينسى الكتاب القديم إلى حين، قد يقصر وقد يطول كثيرا، وذلك بحكم أسفاره الكثيرة، ومشاريعه العلمية والدعوية.
يقول الشيخ: (ومن المشكلات التي أعانيها في تواصل الكتابة في الموضوع الواحد: كثرة الأسفار التي قد تطول أحيانا. فكثيرا ما أشرع في الكتابة في موضوع محدد، وينطلق قلمي فيه، وتتوارد الخواطر، وتتزاحم المعاني، وتتهيأ المراجع، وتتوافر الهمة، وأمضي فيه شوطا طيبا، ثم تأتيني سفرة وأنا على هذه الحال، فتنقلني إلى جو آخر، وأفكار أخرى، وينقطع حبل تفكيري في الموضوع السابق، وقد تفتح لي هذه السفرة موضوعا آخر، يشدني إليه شدا، ويفرض علي نفسه فرضا، فيأخذني الموضوع الجديد، وأنسى الموضوع الآخر إلى ما شاء الله.

 

وصية للتلاميذ

وعندي ملفات كثيرة يحويها مكتبي في بيتي في موضوعات شتى، لم تستكمل بعد، لا أدري: أيقدر لي أن أكملها فيما بقي من عمري أم أدعها كما هي لمن بعدي؟ والغالب أن الإنسان لا يستطيع أن يتمم كل ما يريد، فما كل ما يتمنى المرء يدركه. ووصيتي لتلاميذي ومريديَّ أن يجتهدوا في الانتفاع بهذه الأشياء، ما استطاعوا، ولا يدعوها تضيع سدى).
وكنت قد ذكرت أني عند بداية عملي وجدت الشيخ يقوم بعمل كل شيء، من تجهيز المادة بنصوصها ونقولها وأدلتها، وأرقم آياتها، وأخرج أحاديثها، ويرد كل شيء إلى مرجعه بالجزء والصفحة.
لقد اقترحنا على الشيخ أن يستخدم (المسجل) لتدوين خواطره فيه، ثم يدعنا نفرغها ونكتبها، وبذلك نوفر عليه عناء الكتابة، ولكنه كان دائم الرفض، وكان دوما يقول لنا: (إن الإمساك بالقلم له سر خاص، كأن بين سن القلم وعقل الكاتب اتفاقية أو تفاهما لا نعرف كنهه، إني بمجرد أن أمسك بالقلم تتدفق علي المعاني، وتفيض الخواطر، وتتسلسل الأفكار. ثم إن ميزة الكتابة بالقلم: أني أكتب العبارة أحيانا ثم لا تروقني، فأشطبها، وأسطر غيرها بدلا عنها.. ثم قد أتوقف قليلا لأراجع بعض ما كتبت فأغير وأبدل، وقد أضيف فقرة أخرى، تطول أحيانا، ولذا يجد من يراجع مسوداتي أسهما تشير إلى زيادات وإضافات خلف الصفحة، قد تملأ الصفحة الخلفية، فكيف أفعل هذا في التسجيل الصوتي؟ ولهذا كثيرا ما دعوت الله جل ثناؤه، وتباركت أسماؤه ـ وما زلت أدعوه ـ أن يمدني بالعافية والقوة حتى لا يرتعش القلم في يدي، فهذه نعمة عظيمة أسأل الله تعالى ألا يحرمني منها، وأن يتمها عليّ.
ومما يجعلني أوثر الكتابة بالقلم على التسجيل بالصوت: أني أحب أن أكتب العلم بعبارة أدبية سهلة المأخذ، عذبة على المسامع، وهي التي يسمونها (السهل الممتنع) وأحمد الله سبحانه أني وفقت في هذا إلى حد كبير في عامة كتبي، حتى العلمية الأصيلة منها، لا يجد فيها قارئها وعورة المصطلحات، ولا خشونة العبارات، بل وصف النقاد كتبي بأنها تجمع بين دقة الفقيه، وإشراقة الأديب، وحرارة الداعية، وذلك من فضل الله علينا وعلى الناس. وأسأل الله تعالى أن يرزقنا شكر هذه النعمة.
ومثل هذا التدقيق والتأنق في اختيار العبارات والأساليب لا يتيسر في التسجيل الصوتي).
ولا يزال الشيخ يكتب بخط يده، ولا يملي حرفا واحدا من كتبه، حتى تجد أثر الكتابة واستخدام القلم – حتى الآن – في أصابعه، يترك آثاره في أصابع الشيخ، بل إن أحد أساتذتنا حدثني عن دأب الشيخ وهمته قبل أن أراه، فقال واصفا لأصبعه: تجد أثر القلم على أصبعه الأوسط، لكثرة ارتكاز القلم عليه. فلما لقيت الشيخ لأول مرة في حياتي، كان أول ما وقعت عليه عيني أصبع الشيخ، ووجدت ما أشار إليه أستاذنا.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه