معركة الصليب في ولاية بافاريا

بغض النظر عن رمزية الصليب من عدمه فإن المعارضة الشديدة لقرار ماركوس زودر تدل علي العافية الديمقراطية في المجتمع الألماني

 

مع بداية شهر يونيو الحالي دخل قرار حكومة ولاية بافاريا الخاص بتعليق الصليب في مداخل كافة المباني الإدارية الحكومية حيز التطبيق بالفعل، وسط حالة من التذمر شملت أوساط المثقفين، والطلاب، وأفراد المجتمع العاديين خوفا على علمانية الدولة، وحرصا على عدم محاولات إقحام الدين في السياسة.  

الحقيقة أن الجدل لم يتوقف منذ أن قرر رئيس وزراء ولاية بافاريا الجديد “ماركوس زودر” اعتبار الصليب رمزا أساسيا للهوية الثقافية والطابع المسيحي للولاية المحافظة، وبينما دافع زودر عن قراره هذا فإن ذلك أغضب كل المؤيدين لفصل الدين عن السياسة ولحيادية الدولة الألمانية بشكل عام وولاية بافاريا بشكل خاص، لهذا لم يتأخروا كثيرا عن مواجهة القرار، وقاموا بشن هجمات احتجاج عارمة، شملت مواقع التواصل الاجتماعي، والصحف، وكافة وسائل الإعلام للتنديد بالقرار.

أيضا أعرب رجال السياسة والكنيسة في ولاية بافاريا بوضوح عن حرصهم على استقلال  الولاية،  وعدم رضاهم عن المغالاة في اعتبار الصليب رمزا  للهوية الثقافية في الولاية،  وطالبوا رئيس الوزراء باحترام قيم التسامح والمحبة التي تسود الولاية بدلا من الاهتمام برمز ديني واستغلاله سياسيا،  و إبعاد الدين عن معترك الحياة العلمانية البافارية.  الجدير بالذكر أن الإحصائيات التي خصصت لهذا الغرض ذكرت أن  64 % من الألمان يعارضون تعليق الصليب في الإدارات الحكومية،  ويقولون إنه لا يوجد إجبار في الدين، وإن الصليب مكانه في الكنيسة وليس أروقة الحكومة.

الكنيسة تنتقد

الكنيسة نفسها انتقدت القرار ولم تدعمه وقال :” الكاردينال رينهارد ماركس” رئيس مؤتمر الأساقفة الألمان إن قرار رئيس الوزراء أحدث  انقساما واضطرابا في المجتمع،  كما قالت رئيسة الكتلة البرلمانية لحزب الخضر إن وضع الصليب في الأماكن الحكومية أمر غير مريح.  ويرى أستاذ العقيدة في جامعة بوخوم “جيورج إيسن” أن قرار حكومة بافاريا  ليس أكثر من  بدعة مضللة، أما الشباب فكان لهم صوت قوي  لم يخل من السخرية من قرار زودر،  فقد أحرجوا رئيس الوزراء البافاري  بعبارات قاسية، مستخدمين في ذلك مواقع التواصل الاجتماعي،  وطالبوه بعدم مغازلة الناس برموز دينية، وتذكيره بأن منصبه سياسي وليس دينيا،  وعليه احترام قوانين العمل المدني.

وفي تحد للقرار ذكر أحد العاملين في إحدى المؤسسات أنه يفضل وضع تمثال للإله بوذا لأنه يشعره بالراحة، في حين ذكر آخرون أن على المسلمين واليهود وأصحاب الديانات الأخرى أن يقوموا بتعليق رموزهم الدينية أسوة بتعليق الصليب.

من المؤكد ان رئيس الوزراء البافاري رأى الجدل المحتدم حول الإسلام في ألمانيا، ورأى أن أقصر الطرق لتحقيق الشعبية هي التي تأتى من دخول المعارك الدينية، واستغلال ظاهرة الإسلاموفوبيا في تحقيق نجاحات انتخابية قادمة، فالصليب لم يكن مشكلة في بافاريا، وهذا ما أكده له معارضوه، لكن رئيس الوزراء يبرر موقفه بالقول: إنه يلتزم بالقيم المسيحية للولاية، وإن واجبه هو المحافظة علي الهوية الثقافية البافارية .

من تطأ قدمه أرض ولاية بافاريا يدرك للوهلة الأولي أن الناس لا تميل إلى إقحام الدين في حياتهم، فهم يعملون بجد ويلهون بجد أيضا، ويفضلون دائما الفصل بين الدين والسياسة.

  الدين بشكل عام ليس متغلغلا في الوجدان الشعبي الألماني، والألمان ليسوا متدينين ، ودور الدين في البلاد تقلص فعليا بعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية وتأسيس جمهورية ألمانيا الشرقية، حيث اتخذت مسارا مختلفا عن الشطر الغربي،  واعتنقت الفكر الاشتراكي الذي يرفض تحكم الكنيسة في الدولة والمجتمع، وتم إهمال الكنائس والدين بشكل عام ، أيضا وبعد  المعجزة الألمانية في الشطر الغربي من البلاد  استمر النفور من الدين وعدم الاهتمام به وكان أحد الأسباب هو الضرائب التي تفرضها الدولة علي أتباع الكنيسة،  فتخلي الناس بشكل رسمي عن الدين حتي لا يدفعوا الضرائب،  وهي بشكل عام ضرائب باهظة، وحسب إحصائية كشف النقاب عنها في العام 2007 فإن الكنسية الكاثوليكية حصلت على 4.8 مليارات يورو والكنيسة البروتستانتية على 4.2 مليار يورو من عائدات ضرائب الدين.

الصليب والمحكمة

إصرار السياسيين في بافاريا على توظيف الدين في السياسة بحجة أن الولاية محافظة جلب الكثير من المشاكل لتلك الولاية  ذات الطابع السياحي والصناعي الممتاز،   ففي سنة 1995 أصدرت المحكمة الدستورية قرارا بعدم تعليق الصلبان علي الجدران في المدارس الحكومية،  وانتقدت في الوقت ذاته بندا في نظام التعليم البافاري يعطي الحق للمدارس في فعل ذلك ووصفته بأنه  غير دستوري ويتعارض مع قانون حرية الديانة وحياد الدولة دينيا، لكن حكومة الولاية توصلت آنذاك إلى حل وسط يقضي بإزالة الصليب في الحال إذا ما شعر أي تلميذ بأنه متضرر من هذا الوضع القانوني وتقديم ما يثبت أنه يعاني من الاضطهاد .

إذن رغم قرار المحكمة الدستورية الألمانية بإقرار رمزية الصليب الدينية فإن ماركوس زودر رئيس وزراء بافاريا مازال يري عكس ذلك فهو يصر على أن الصليب ليس رمزا دينيا حتى يتهرب من الاتهامات له بخلط الدين بالسياسة، رغم أن هناك إجماعا تاما على رمزية الصليب سواء كان ذلك بين المتخصصين أو الناس العاديين أو حتى المحكمة الدستورية.

بغض النظر عن رمزية الصليب من عدمه فإن المعارضة الشديدة لقرار ماركوس زودر تدل على العافية الديمقراطية في المجتمع الألماني، فالناس يؤمنون بحياد الدولة ويحافظون عليه، ويؤمنون كذلك بحرية الاعتقاد الديني من دون الإضرار بالآخرين ويدافعون عنها.

عند هذا الحد من الحوار في المجتمع الألماني حول هذه القضية أصبح واضحا أن قطاعا كبيرا من الألمان يرفض المتاجرة بالدين، ويمتنع عن الانزلاق في الصراعات الدينية التي تسود العالم الآن مفضلين أن تبقى ألمانيا كما هي حيادية، وأن يبقي مكان السياسة في البوندستاج، والدين في الكنيسة.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه