مطلقو الشائعات

هناك اعترافات لقيادات سابقة بالمجلس العسكري منها ما قاله اللواء حسن الرويني قائد المنطقة المركزية السابق يؤكد فيها أنهم كانوا يطلقون الشائعات للتحكم في أحداث الثورة.

لو كنت مصريا وأنت تتابع المشهد في مصر لعرفت من أول برهة أن هذا الضجيج الكبير في إعلام النظام المصري حول حرب الشائعات، هو مقدمة للجم الافواه والاجبار على تبني الخطاب الرسمي للدولة، وذلك في محاولة لحصار العقل والمنطق و”التوقع والتحليل والاستنتاج” عبر اتهام كل صاحب وجهة نظر بأنه من مروجي الشائعات.

ويؤكد هذه المخاوف أن رأس النظام شخصيا هو من أعلن عن رصد نظامه 21 ألف “اشاعة” في 3 أشهر معتبرا أن انهيار الدول يبدأ من الداخل عبر الشائعات، وهو التصريح الذي سبقته تمهيدات إعلامية كبيرة اتفقت على طريقة مواجهة مروجي الشائعات عبر القوة الغاشمة واختلفت في الأرقام التي تدرجت ما بين 60 ألف شائعة – ووصلت بعد ضبط جهاز رصد الشائعات – إلى 21 ألف شائعة فقط.

المهين حقا هنا أن الإعلام المصري راح يردد حينها نفس اللفظ الخاطئ الذي ردده السيسي فنطقوا الكلمة بلفظ “إشاعة” والصحيح “شائعة” لأن الإشاعة نجدها عند معامل “الإشاعات الطبية” فقط، بحسب اللفظ الدارج لـ “الأشعة”!

ويعتقد الكثيرون أن السلطة نفسها هي من تطلق عبر أدواتها غير الرسمية من إعلاميين ومسؤولين محليين الشائعات، ثم تقوم رسميا بتكذيبها وتدلل على ذلك بوجود مؤامرة ضدها يجب لجم منفذيها.

حول الشائعة

ولم يقل لنا هؤلاء ما هو الفرق بين الشائعة والاستنتاج؟ وهل هناك تعريف للشائعة وتعريف أخر للاستنتاج يجعلنا نفرق بين الشرير المغرض والباحث المتأمل المفكر؟ وهل يمكن أن يصدق الناس أي شائعة دون أن يتوافر شيء ما يدلل عليها؟ فرجلا الشرطة والنيابة الجادان مثلا يقومان بجمع المعلومات المتوافرة لديهما عن أمر ما ليستنتجا منها احتمالات معينة، هذه الاحتمالات تكون في تلك اللحظة غير مؤكدة وفي إطار “الإشاعة” حتى يثبت صدقها.

وبالتالي فإن تغييب المعلومات الصادقة والحقائق وعدم الإجابة عن التساؤلات بشكل منطقي – وهو ما تفعله السلطة في مصر- هو ما يصنع بيئة خصبة للشائعات، وليس من الإنصاف أن نعاقب الناس لأنها أكملت “حلقات” البحث باستخدام أدمغتها التي خلقها الخالق خصيصا لمثل هذه المهام، بعد أن ساقت السلطة نتائج لا تتسق مع المقدمات المتوافرة.
ولهذا لم يصدق الناس الأمر وراحوا يفكرون بأنفسهم مع أن الدول الحرة تشجع مواطنيها على التفكير بعد تقديم كافة الإجابات المقنعة لكل الأسئلة التي يطرحها الناس دون ضجر أو ملل أو تخوين أو إكراه لهم.

والحقيقة أن كل تجارب التاريخ الناجحة بنيت على اعتقاد ما، وكل اعتقاد قد يحتمل الخطأ والصواب، وكل خطأ هنا هو في الأصل كان شائعة تحتمل أيضا الصواب، وإيجازا فإن كل ما يشاع هو أمر قد يحتمل الصواب أو الخطأ كليا أو جزئيا.

وكل ما يخشاه المرء أن يكون النظام هو نفسه من يطلق الشائعات تارة ليكذبها بعد أن يرددها معارضوه فيصبح هو ضحية لمؤامرة كبيرة وتارة لكي يأخذها ذريعة لاجتثاث كل من يقول خلاف ما يقول هو، خاصة أن الشائعات تعد واحدة من أهم معالم الحرب النفسية التي يتم تدريسها في الكليات الحربية ليس في مصر بل العالم بأثره للتأثير في نفسية العدو.

وهناك اعترافات لقيادات سابقة بالمجلس العسكري منها ما قاله اللواء حسن الرويني قائد المنطقة المركزية السابق يؤكد فيها أنهم كانوا يطلقون الشائعات للتحكم في أحداث الثورة وذلك في مداخلة له أجراها على قناة دريم في أواسط عام 2011.

ومن المعروف أن النظام العسكري الحاكم في مصر اعتاد منذ عقود إطلاق الشائعات قبل اتخاذ أي قرار يخشى عواقبه، وكان يسمي ذلك بسياسة جس النبض.

شائعة أم تحليل؟

 اختلطت الشائعة بالاستنتاج كاختلاط مكونات الماء، فالصحف الإسرائيلية تتحدث مرارا عن خطة لتبادل الأراضي بسيناء، وقال مبارك في تسريب صوتي له إن رئيس وزراء الكيان عرض عليه إقامة دولة للفلسطينيين في شمال سيناء مقابل ضم إسرائيل لغزة لكنه رفض.
ثم تتكرر فجأة بعد 2013  أحداث إرهابية في المنطقة المراد إقامة تلك الدولة عليها تحديدا دون غيرها ، تلاها تهجير لأهاليها بحجة مكافحة الإرهاب، ثم تتدفق الاستثمارات من دول داعمة لإسرائيل لإحداث تنمية في تلك المنطقة، ويتم افتتاح سحارات سرابيوم لتوصيل مياه النيل إليها ، ثم يتحدث السيسي في لقاء مع ترمب عما أسماها “صفقة القرن”، ثم حصار إسرائيلي مصري خانق لقطاع غزة المراد تهجيره، والسؤال: هل لو قلنا بعد كل هذه المعلومات أن ما يجري في سيناء هو تمهيد لإقامة تلك الدولة المزعومة – والمرفوضة فلسطينيا قبل أن تكون مرفوضة مصريا – نكون نحن بذلك من مروجي الشائعات أم من المحللين السياسيين؟ وهل حينما نشك في أن الإرهاب هناك حدث مبتدع لخلق هذه الحالة، نكون نحن من المغرضين؟

وخذ مثالا أخر ، شرعت إثيوبيا في بناء سد النهضة الذي سيحجب نحو نصف حصة مصر السنوية من ماء النيل وكنا نتوقع إعلان مصر الحرب لذلك السبب، لكن وجدنا السيسي برفقة الرئيسين السوداني والإثيوبي يوقعون اتفاقا لم يطلع عليه أحد حينها، وخرجت في اليوم الثاني الصحف المصرية بعنوان موحد “السيسي حلها”.
ثم تتجدد دعوات قديمة بعد ذلك بتوصيل مياه النيل لإسرائيل، ثم نجد أموالا من بنوك مصرية وإسرائيلية وخليجية قد تدفقت سرا على إثيوبيا لبناء هذا السد، تلاها فتح سحارات سرابيوم وترعة السلام لنقل المياه من النيل إلي شرق القناة ..فهل حينما نقول أن النظام المصري يسعى لتوصيل مياه النيل لإسرائيل نكون بذلك من مروجي الشائعات أم من المحللين السياسيين؟

وهل حينما ترفع الكاميرات من المتحف المصري بعد رئاسة السيسي لمجلس “أمنائه” ثم تطفئ أنوار مطار القاهرة ثم يعلن عن سرقة 23 ألف قطعة أثرية من المتحف وبعدها بأسابيع تفتح دولة الأمارات – حليفة السيسي- متحفا كبيرا عرضت فيه الكثير من تلك المسروقات، فهل حينما نقول إنه تم تهريب الآثار إلى الإمارات نكون بذلك نستنتج أم نطلق شائعات؟

ولو قلنا إن ترديد معلومات مجهولة يعد علامة من علامات الشائعات كما يزعم الإعلام المصري، فإننا أيضا حينما نقول بوجود رب للكون نكون بذلك من مرددي الشائعات، ولا يمكن أن نخرج من تلك الورطة إلا بالعودة للإيمان بالشواهد والمقدمات، وأن ندلل على وجود الله كما دلل عليه الإعرابي بأن: الأثر يدل على المسير، والبعرة تدل على البعير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، ألا تدل على السميع البصير؟!

الخلاصة أنه حتى لو كان نظامكم عادلا – وهو أمر لا يصدق من فرط استحالته – فهو مدان لأنه أشاع الضبابية وخلق الشائعات وليس “الإشاعات”!

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه