مصر وتركيا وليبيا.. ومؤتمر برلين

 

لست تركياً، أو مستفيداً من تركيا، حتى أدافع عن سياستها في ليبيا، وباعتباري مصرياً، أود أن أقف سنداً وردفاً بجانب السياسة المصرية، وأكون متحدثاً عنها، إنما من محاولة القراءة الهادئة المحايدة للسياسة في كلا البلدين، تجد نفسك أمام وضوح في السياسة التركية فيما يخص الشأن الليبي، حتى لو كانت هذه السياسة غير مرغوبة من أطراف عربية ودولية، أما السياسة المصرية فتجد فيها مواقف مزدوجة، وهي مقصودة، وليست نتاج إخفاق في الدبلوماسية، أو سوء تقدير المواقف.

القاهرة تُصّدر للعالم خطاباً عن أهمية التوصل لحل سلمي للأزمة الليبية، لكنها في نفس الوقت تنحاز وتدعم جنرال الشرق خليفة حفتر في تحركاته العسكرية لإحكام سيطرته على كامل التراب الليبي بالقوة العسكرية، وليس بالقوة السياسية القائمة على الحوار والتفاوض، وبناء دولة مدنية ديمقراطية لكل الليبيين.

 هذا الجنرال الذي غادر موسكو قبل عدة أيام دون أن يوقع على اتفاق وقف إطلاق النار مع فائز السراج رئيس حكومة الوفاق الوطني حيث رفض التقيد بأي التزامات، وفقد فرصة الظهور كرجل دولة راغب في السلام.

مصر وحفتر والوفاق

مصر تبدو في العمق مساندة لفريق ليبي، وتبتعد عن فريق آخر، والفصيل المرفوض منها يمتلك في يديه الشرعية الدولية، والاعتراف الأممي، وهي حكومة الوفاق برئاسة السراج، وإسقاطها يمثل إهداراً لجهود الأمم المتحدة والمجتمع الدولي الذي أقرها، وهي خرجت نتاج جهود سياسية مضنية في عام 2015، وكان مأمولاً منها أن تكون قاطرة التسوية الشاملة في هذا البلد المنكوب.

ومن يحبذون خيار الحرب ويريدون السيطرة على ليبيا بالآلة العسكرية أو إحكام قبضة الجنرال على السلطة يدفعون هذه الدولة إلى مخاطر الدمار وفقدان الاستقرار لسنوات طويلة.

 وضمن أهداف الوجود التركي في طرابلس الحفاظ على بقاء حكومة الوفاق رمز اً للشرعية التي يتعامل معها المجتمع الدولي، وحتى تكون طرفاً أساسياً في أي تسوية قادمة، ولأن وجودها يمنح الأتراك مبرراً للوجود  في ليبيا، والحفاظ على ما يعتبرونه مصالحهم في البحر المتوسط والمنطقة، فلا أحد يعمل دون ثمن، ولا مبادئ مطلقة في العالم اليوم، إنه صراع شرس متعدد الجبهات لأجل المصالح.

احتضان الجميع

كان ضروريا للموقف المصري أن يحتضن منذ البداية كل الفرقاء المستعدين للعمل السياسي المدني، والراغبين في الجلوس على الطاولة، دون استثناء أو تمييز، ومهما كان التقاطع السياسي بين توجهات السلطة في القاهرة وبين أطراف ليبية، خاصة الإسلاميين، فالاستقرار والسلام الاجتماعي في ليبيا مصلحة لمصر وللجوار والعالم، والليبيون وليس غيرهم، وعبر اختياراتهم الحرة، هم من يمنحون الشرعية لهذا الشخص أو ذاك، وهم من يختارون هذا التيار أو ذاك للحكم.

وحكومة السراج عندما تجد طوقاً وهجوماً عليها لإسقاطها، يكون طبيعى بالنسبة لها أن تستجير بمن هو مستعد لمساعدتها، ومنذ البدء تمد هذه الحكومة يديها لكل العواصم العربية، لكنها لا تجد غير التشكيك فيها، وهي تؤكد حسن نياتها في الحل، فقد كانت سبّاقة في الذهاب إلى موسكو، كما وافقت على وقف إطلاق النار، بينما رفض الطرف الآخر.

حياد دول الجوار المغاربي

وعلى العكس من تقييد القاهرة لنفسها بدل أن تعمل في ليبيا كلها وتكون الحاضن لجميع الفرقاء، تقف دول الجوار الأخرى؛ تونس والجزائر وامتداد هذا الجوار في المملكة المغربية، على الحياد، ولا تنحاز لهذا الطرف أو ذاك، إنما تدعو لحل سياسي، وبناء نظام يختار الشعب فيه من يحكمه، وتدليلاً على الرغبة في الإنقاذ يواصل المغرب تذكير العالم بأنه استضاف مفاوضات أنتجت اتفاق (الصخيرات) للحل السلمي عام 2015، والموقف المغربي بجانب التصريحات الجزائرية حول ضرورات الحل السياسي، وتأكيد جدوى السلام والتوافق، وليس الحرب والحل بقوة السلاح، ومعهم تشديد تونس على الحياد التام يمثل تغليباً لخيار العقل في معالجة الصراع في مواجهة خيار القوة التي لا تصنع استقراراً أبداً.

وضوح السياسة

تركيا مثل مصر تدعم طرفاً ليبياً على حساب الآخر، مصر مع الشرق وحفتر، وتركيا تقف مع الغرب والسراج، والفارق هنا أن الموقف التركي محدد الهدف، والسياسة حتى تكون مفهومة ومقروءة بحاجة للوضوح وتحديد الأهداف سواء كانت سلبية أم إيجابية.

 ومصر طالما تدعم حفتر كان يمكنها الثبات عند هذا المستوى، والرفض الصريح للجانب الآخر في الصراع، وهو السراج وحكومته، لكن التناقض مربك بين رفع شعار الحل سياسي، ثم دعم الجنرال في خططه العسكرية.

البحث عن المصالح

الأتراك يبحثون عن مصالحهم في ليبيا مثلما يفعل جميع المتدخلين، وأنقرة أعلنت عقب موافقة برلمانها على نشر قوات في ليبيا أنها بذلك تحمي مصالحها في شمال إفريقيا، وشرق المتوسط، وأنها تحتفظ بقوتها في الميدان، وتقوم بالتفاوض، وهي تُظهر القوة ليكون لها مكان على الطاولة، وتحصل على جزء من كعكة ليبيا في الطاقة وإعادة الإعمار، وهذا هدف روسيا وأمريكا وفرنسا وإيطاليا وكل من يلعب في هذه الساحة المفتوحة.

ومصر لها مصالح في ليبيا كذلك، منها الحفاظ على أمنها القومي، وحماية حدودها، ولديها مخاوف واقعية من تداعيات الفوضى في هذا البلد على مناطقها الغربية، والداخل المصري نفسه، وقد تعرضت حدودها لاختراقات عديدة من متطرفين عبر ليبيا نفذوا عمليات إرهابية.

ومن واجب أي حكومة مصرية تأمين حدودها، والاطمئنان لما يجري في ليبيا، وأن يكون لها دور في ترتيب الأوضاع إذا كان مرغوباً في ذلك، وكان على الدبلوماسية المصرية أن تكون علاقتها متوازنة مع طرفي الصراع، وألا تتخوف من وجود جماعات مسلحة ليبية، فهذه الجماعات لم تنشأ من ذاتها لنشر الفوضى، إنما سلحها (الناتو) وكانت مرغوبة من العالم خلال 2011 في قتالها ضد القذافي، وإذا كانت تؤمن بالسياسة، ومستعدة للتخلي عن سلاحها، فلماذا لا يتم دمجها في التسوية؟

الإرهاب وإشكالية الإخوان

مسألة الإرهاب تثير القلق لمصر، وأي حكومة مركزية في ليبيا حتماً ستواجه أي جماعات متطرفة، وحكومة السراج المتهمة بتوفير غطاء للإرهابيين واجهت (داعش) في مدينة (سرت)، وقدمت 700 شهيد في الحرب مع التنظيم، ومواصلة الربط بينها وبين الإرهاب هدفه إسقاطها سياسياً ودولياً، ولو كانت متورطة في مساعدة إرهابيين لكانت الأمم المتحدة والعواصم النافذة سحبت الشرعية منها.

تركيا تبحث عن مصالح تتجاوز ليبيا وحكومة الوفاق، ومصر تبحث عن مصالح أمنية أساسية، لكنها بحاجة لتجاوز عُقْدة الجماعات المسلحة، وتنظيم الإخوان، والقاهرة تتعامل مع تونس والمغرب، وفيهما إخوان يحكمون، وتتعامل مع دول عربية أخرى وفيها إخوان يُعتبرون جزءاً من النظام، أو المعارضة المشروعة.

فرص نجاح مؤتمر برلين

قد لا يُكتب النجاح لمؤتمر برلين الذي سيُعقد غداً في المانيا للبحث في الحل السياسي في ليبيا وليكون حلقة أخرى في الجهد التفاوضي بعد (الصخيرات) بسبب أن النيات الحقيقية في السلام لا تبدو متوفرة بإخلاص حتى الآن، ذلك أن ليبيا تشهد واحدة من حلقات التكاذب السياسي العربي والدولي، كما في اليمن وسوريا، وكما في كل الصراعات العدمية الفاقدة للعقل الوطني المسؤول.

وهذا المؤتمر لن يكون مدخلاً لتسوية جادة إلا إذا كانت العواصم الكثيرة التي تمارس لعبة الدم والنار في ليبيا ترغب في وضع حد للمأساة التي أنهكت هذا البلد وشعبه.

 والحل الحاسم لن يتم إلا بإرغام الأطراف المتقاتلة على وقف الاقتتال والرضوخ للسلام والتوافق والخضوع لإرادة واختيار الشعب الليبي فيمن يحكمه، وليس فرض الوصاية عليه بتعيين حكامه وممثليه، ولا بد كذلك من إيقاف حقيقي ومسؤول ومُعلن لكافة التدخلات الخارجية، والبلدان التي تشارك في هذا المؤتمر كلها، باستثناء المانيا المستضيفة، هم اللاعبون الكبار في ليبيا، دعماً وتمويلاً وتخطيطاً وإسناداً عسكرياً لطرفي الاقتتال، وبالتالي لا معنى للمؤتمر، ولما سيُقال فيه، إذا لم تكن هناك ضمانات أكيدة من مختلف العواصم التي تتدخل بأن تكف يديها عن مزيد من الانقسام والاحتراب وأن تتحول حركتها نحو إقرار السلام.

في الختام نأمل أن تكون شمس يوم غدٍ الأحد مشرقة على ليبيا بلا غبار الحرب وذلك بأن يتوصل مؤتمر برلين للحل المرضي لكل الفرقاء والذي طال انتظاره.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه