مسمار “جحا” ومزاعم إبادة الأرمن

ورغم افتقار مزاعم الإبادة الأرمنية تلك إلى أدلة وبراهين ملموسة، فإنها أصبحت تمثل طوق نجاة لكل من يريد الهروب من مشاكله وأزماته الداخلية من الساسة الغربيين.

 

من دون أي سبب أو مناسبة، خرج علينا إيمانويل ماكرون، الذي يعاني أزمة داخلية طاحنة تهدد استمراره في منصبه رئيسا لفرنسا، بقرار يقضي باعتبار الرابع والعشرين من أبريل/ نيسان يوما وطنيا لإحياء ذكرى ما أسماه” الإبادة الارمنية”، تلك المزاعم التي تتهم تركيا العثمانية بإبادة حوالي مليون ونصف من الأرمن في الحرب العالمية الاولي!

ذاكرة عادلة للحقائق

ويطالب الغرب تركيا الحالية بالاعتراف بالمذابح والاعتذار عنها، فيما ترى تركيا أن ما حدث كان بمثابة كارثة إنسانية وقعت في تلك الفترة، وطالت المسلمين كما طالت الأرمن على حد سواء، نافية ان يكون ذلك تطهيرا عرقيا، واقترحت لإنهاء الجدل حول تلك المسألة، تشكيل لجنة من المؤرخين الاتراك والأرمن تقوم بدراسة الأرشيف المتعلق بأحداث العام 1915، الموجود لديها ولدى أرمينيا والدول الاخرى ذات العلاقة بالأحداث. معربة عن كامل استعدادها لفتح كافة الملفات التي بحوزتها، والوثائق العثمانية المتعلقة بتلك الحقبة، بما في ذلك الأرشيف العسكري، والتي يقارب عددها مجتمعة المليون وثيقة ومعلومة، وذلك بغية الوصول إلى ما أسمته ” ذاكرة عادلة للحقائق” ليتحدد من خلالها المسؤولية التاريخية لكل طرف من أطراف تلك المسألة عما حدث في ذلك الوقت، وهو ما رفضته أرمينيا تماما. 

الهروب عبر بوابة الإبادة الأرمنية

ورغم افتقار مزاعم الإبادة الأرمنية تلك إلى أدلة وبراهين ملموسة تؤكد مصداقيتها، ووقوع أحداثها كما يصورها الغرب، فإنها أصبحت تمثل طوق نجاة لكل من يريد الهروب من مشاكله وأزماته الداخلية من الساسة الغربيين، ومسمار جحا الذي يتحجج به المتربصون بتركيا الجديدة، ولا يجدون في حاضرها من مأخذ يأخذونه عليها ويسيئون به إليها، سعيا لابتزازها وإضعافها وتركيعها.

فكلما مرت إحدى الدول الغربية أو الولايات المتحدة الامريكية أو حتى إسرائيل بأزمة داخلية لديها، أو استشعرت خطرا حقيقيا جراء استمرار صعود أسهم الاسلام السياسي أو تحقيق الحكومة التركية لقفزات اقتصادية ونجاحات دبلوماسية، يبدأ قادتها في القيام بعملية استحضار سريعة للماضي، والبحث فيه عن أية أزمة يمكن من خلالها تشويه صورة الاسلام، وإدانة تركيا، وشغلها، والنيل من مكانتها وشعبيتها، وعرقلة مسيرة تقدمها سياسيا واقتصاديا.

 تلك المسيرة التي أصبحت تمثل مصدر خطر حقيقي ليس على الدول المذكورة وحدها، بل أيضا على عملائهم الذين قاموا بزرعهم في كل دولة من دول المنطقة، وسلموهم مقاليد الحكم والسلطة فيها ليكونوا حراسا على ثرواتها، وسجانين لشعوبها.

محاولة يائسة لاستعادة شعبيه ضائعة

خطوة ماكرون تلك، والتي تصب في نفس الاتجاه، أثارت الكثير من الدهشة والاستغراب داخل الأوساط السياسية الرسمية والحزبية التركية، التي أجمعت على أن الرجل يهرب من مشاكله الداخلية الطاحنة، ومن مطالبات أصحاب السترات الصفراء الغاضبين برحيله عن سدة الحكم في البلاد، ويسعى للتخفي وراء مسألة تسبب الكثير من الخلافات بين تركيا ودول الاتحاد الأوربي، غير عابئ بما يمكن أن يسببه ذلك الأمر من مشاكل مع أنقرة هو في غنى عنها في الوقت الراهن على الأقل.

ماكرون سعى من اتخاذ ذلك القرار، والإعلان عنه في حفل العشاء السنوي للمجلس التنسيقي للمنظمات الأرمنية في فرنسا تحديدا، إلى الظهور بمظهر القائد الذي يفي بوعوده الانتخابية، في محاولة يائسة منه لاستعادة شعبيته على الصعيد الداخلي، والتي تكاد ان تٌمحى تماما من أذهان الفرنسيين.

إلى جانب مغازلة الدول الأوربية، طمعا في دعمها له، ومساعدته في إيجاد مخرج لمحنته الحالية، مستغلا في ذلك أحداث تاريخية مثيرة للجدل، والقيام بتوظيفها سياسيا، في محاولة لتحسين صورته لدى تلك الدول، والتي تشوهت نتيجة الاحتجاجات الحادة التي شهدتها فرنسا، والتي كانت بمثابة إدانة شعبية علنية لشخصه ولممارساته السياسية والاقتصادية.

التضحية بالعلاقات مع تركيا

ونسى الرئيس الفرنسي خلال تلك المحاولة البائسة أن فرنسا نفسها متهمة بقتل وتعذيب وتشريد الملايين ممن وقعوا تحت الاحتلال الفرنسي، خصوصا في الجزائر التي تٌعرف ببلد المليون شهيد، وأنه بسلوكه المشين ذلك، يضحي بعلاقات ومصالح بلاده مع تركيا، التي يبلغ حجم صادراتها إليها نحو ثمانية مليارات يورو، وهو مالم يلتفت إليه ماكرون عندما قرر أن ينهج هذا النهج، ضاربا عرض الحائط بما تدره العلاقات التجارية مع تركيا على خزينة بلاده من عائدات ليست بالقليلة، تساهم من دون شك في تحسين وضع الاقتصاد بها بصورة أو بأخرى.

لقد انتبه السياسيون الفرنسيون للأمر، وألمحوا في تصريحاتهم، التي كشفت عن مخاوفهم من رد الفعل التركي في هذا الاتجاه، إلى أن أي تمييز تركي ضد فرنسا اقتصاديا سيكون عملا غير قانوني، وفق قواعد منظمة التجارة العالمية التي تنتمي إلى عضويتها كلا الدولتين، وكذا قواعد الاتفاقية الجمركية المشتركة بين تركيا والاتحاد الاوربي.

وكما نسى ماكرون، نسى المسؤولون الفرنسيون في تلميحاتهم تلك إلى أن إثبات التمييز أمر صعب الحدوث ، خصوصا إذا كانت المسألة ترتبط بعقود البنية التحتية الضخمة التي تهتم بها الشركات الفرنسية، مثل إنشاء محطات الطاقة النووية ، وإقامة انظمة السكك الحديدية، وبيع الطائرات بنوعيها العسكرية والمدنية ، وغيرها من مجالات تخصص الشركات الفرنسية، ناهيك عن عدم وجود ما يمنع من قيام الشركات التركية الخاصة من مقاطعة البضائع الفرنسية، وإقدام الأتراك أنفسهم على الاستغناء عن كل ما هو فرنسي من منتجات وخدمات، إذا ما تزايدت حدة الضغوط التي تمارسها القيادة الفرنسية على بلادهم، ومحاولاتها الدؤوب لتشويه تاريخهم وحضارتهم التي يفتخرون بها، وبكون بلادهم تتصدر  دول العالم من حيث اعتبارها ملاذا آمنا لكافة الشعوب التي لجأت إليها عبر تاريخها الطويل.

ما يعني أن مواجهة تركيا للكراهية التي يكنها لها الرئيس الفرنسي، والإساءة لتاريخها من أجل تحسين صورته داخليا وخارجيا، والتصدي لتعنته ضدها ومحاولاته الدائمة لإثارة المشاكل معها لن يمثل بالنسبة لها أية خسارة تذكر، لا على الصعيد السياسي ولا على الصعيد الاقتصادي. 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه