مرة واحد عمل حركة

 

(1)

أحب هذه النكتة: مرة واحد “ماعندوش إرادة” قال لواحد صاحبة “ماعندوش إرادة طبعاً”: مش تبارك لي، فسأله: على إيه؟ قال بنبرة حاسمة: خلاص، أنا أخدت قرار إني أبطل السجاير، ومن أول يناير هكون إنسان جديد، رد اللي “ماعندوش إرادة طبعاً” بعظمة مقللأ من قرار صاحبه اللي “ماعندوش إرادة”: وانت فاكر إن دي حاجة صعبة، يا راجل دا أنا أخدت القرار ده قبلك 11 مرة.

 

(2)

منذ سمعت هذه النكتة قبل سنوات طويلة، وأنا أتعامل معها باعتبارها نكتة فلسفية، تعكس العلاقة بين قوة الإرادة وفعل التكرار، فهناك أمور لو تكررت فإنها تعني الضعف لا القوة، مثل توجيه ضربة حاسمة بضربة سيف واحدة، ومثل النكتة الأخرى التي تتحدث عن انتشاء طبيب نال الثناء بعد نجاح عملية جراحية أجراها لمريض، فدفعه الثناء لشق صدر مريضه مرة أخرى، وإعادة الجراحة طمعاً في الثناء الذي تصور أن تكرار الفعل ذاته هو السبيل الأضمن للحصول عليه، هكذا ينتشر التكرار والتقليد وتطغى المحاكاة على الإبداع، فإذا افتتح شاب محلا لإصلاح الهواتف ونجح، تستيقظ في اليوم التالي على عشرة محلات في الشارع نفسه، وإذا أسس أحدهم حزبا فاشترى سيارة أو ظهر في التليفزيون، راجت ممارسة تأسيس الأحزاب، وإذا انسحبت الأضواء عن الأحزاب الهشة والمعارضة العاجزة، وتسرب شعاع ضوء إلى “آلة العمل الجبهوي” فظهرت في التليفزيون، تكاثرت الدعاوى إلى العمل الجبهوي، وهكذا قفزت النكتة التي أحبها من حديقة السياسة الهادئة إلى نهر الشارع السياسي المزدحم الصاخب.

(3)

طيب ده صح وللا غلط؟ يعني تعدد الجبهات أفضل أم جبهة واحدة جامعة شاملة؟

مثل هذه الأسئلة تغيظني إلى درجة الاحمرار، ربما لأن العالم امتلأ بالكسالى الذين يريدون استبدال عقولهم بـ”نشرة استعمال” كالتي يتم إرفاقها بالأدوية والأجهزة الكهربائية، وربما لأن الخطأ عندي أنا في التعامل مع العالم، فأنا منحاز للفلسفة أكثر من السياسة، أحترم “الديالكتيك” لأنه استطاع أن يجمع بين هيغل وماركس معاً، وأؤمن إيمانا قاطعا أن العالم يقوم على التناقضات، وأن قيمة الإنسان تنبع من قدرته على إدارة هذه المتناقضات، وليس الاختيار بينها، لأنها ستظل موجودة رغما عنه، فلا أحد يستطيع قتل الشيطان، ولا نزع الشر من العالم ولا إلغاء الليل وتحويل الحياة إلى نهار سرمدي متواصل، فقط ندير العلاقة بين هذه النقائض لنحقق الهدف الذي نبتغيه في الوقت المطلوب، وربما إذا تغير الوقت تغيرت الأهداف والأدوات، ولأن الإنسان اكتشف أن الوقت يتغير حتمياً (السيرورة) فلابد أن العالم كله يتغير بالضرورة (الصيرورة)، وهذا يعني أنك لن تنزل النهر مرتين (إلا في بلادنا الميتة).

(4)

يمكن للبعض تجاهل الفقرة السابقة من القراءة والفهم، ويمكن للبعض الآخر التوقف عندها بالتأمل والتفكير العميق، لأنها جوهر المقال، وجوهر الأزمة التي نعيشها: تحنيط الحياة، ومحاولة إعادة جراحة ناجحة مع المريض ذاته، لأن الإعادة تعني أن الجراحة فشلت، فإذا كانت قد نجحت فإن الطبيب الذي يعيدها مختلاً بالتأكيد، ومن هنا فإذا تأملنا الأفعال التكرارية في مجتمعنا فإننا لابد وأن نعترف بأمر من اثنين: إما أن النخبة في مجتمعنا “مختلة” تعيد عملية ناجحة لمجرد الحصول على الثناء بصرف النظر عن مصلحة المريض، وإما أنهم “فاشلون” يعيدون الجراحة نفسها من دون أي تحسن في حالة المريض!

(5)

أشعر أنني فاشل لأنني أكرر بعض المعاني، إنما لا بأس فقليل من التكرار ضروري للتوصيل وللتعلم، كانتشار المخابز في الأحياء لخدمة الناس وتوفير الوقت، وهذا يعني أن التكرار يجب أن يكون محسوباً ليحقق الانتشار الجغرافي بحيث لا تتكدس منطقة بالمخابز وتخلو أخرى منها، كما أنه يجب أن يرتبط بهدف جوهري، فتعدد الضربات وتكرارها بهدف تكسير صخرة، أو قطع شجرة، تشكل منهجا لمكان كل الضربة بحيث يتحقق الهدف حتى لو في الضربة العشرين، بينما لو ضربنا مئة ضربة من دون وعي بالهدف فقد لا نستطيع قطع شجرة ولا فتح ثغرة!

لعنة الله على إغواء الفلسفة في مرحلة لا يستهلك الناس فيها إلا “فشار الإعلام” وأغذية السياسة المضرة بالصحة، لهذا أجدني مضطراً لأن أمسك أنفي بيدي وأخوض في المستنقع العفن الذي يتصور البعض أنه موطن الحياة فيتعارك على نصيب أكبر منه، بدلا من أن يعبره، أو يدعو الناس لعبوره!

(6)

على مستوى الأفكار الفلسفية ليست لدي مشكلة مع التحالفات والائتلافات والعصبيات من أي نوع، وعلى مستوى الممارسة السياسية والخبرات التاريخية لدي حساسية شديدة من المصطلحات نفسها، حتى أنني إذا سمعت كلمة “تحالف” أستعد فوراً لمصيبة عظيمة مقبلة، ومن حسن الحظ (أو من الدهاء) أنني حدثتكم عن قبولي بالمتناقضات في فقرة سابقة، بشرط الوعي بإدارتها للوصول إلى الحل الثالث، الأفضل والأرقى من النقيضين السابقين، وهذا بالضبط أقصر وأوضح تعريف لما يسمى “الديالكتيك” أي زواج نقيضين لإنجاب منتج ثالث أرقى منهما، لهذا أحاول دائما تزويج المتناقضات لإنجاب البديل الغائب، بدلا من الصراع بين الثنائيات الذي نغرق فيه، والذي يدفعنا للتخلص من النقيض وإخراجه من المعادلة، وهذا يعني باختصار إن مش هيبقى فيه معادلة من أساسه، أي أننا نعدم الحياة، نعدم المجتمع، نعدم التطور والديالكتيك؛ بسبب عجزنا عن إدارة التناقض وعدم فهمنا لآلية التغيير التي يقوم عليها العالم، واستسلامنا لغريزة “قتل الآخر النقيض” التي دشنها قابيل لحل ما يتصور أنها قضيته.

(7)

سجاير وفلسفة وتنكيت، كأنني أهرب من الرسالة السياسية المباشرة، مع أنني كنت قد قررت أن أناقش بمباشرة شديدة إعلان “الحركة المدنية الديمقراطية” وما يكتنفه من غموض وأسئلة، فلا أحد يستطيع أن يعترض على مطلب التوحد والاصطفاف، ولا أحد يرضى أن يتخلص ببراءة أو برعونة من مخاوف التجارب السابقة، والخبرات السلبية الناجمة عن الخلط بين الإجرائي والفلسفي، أو بين السياسي والإنساني، أو بين الحزبي والوطني، وبرغم أنني أعلنت عن حساسيتي “البافلوفية” من مصطلح “التحالف”، فإنني لا أستطيع أن أمنع أو أُجَرِّم التحالفات السياسية، لكنني فقط أحب أن اسميها باسمها، وأتعامل معها باعتبارها “تحالفات برامجية” قد تصلح لمواسم انتخابية، أو مهام سياسية مؤقتة ذات طابع مرحلي، لكنها بالتأكيد ليست مشاريع وطنية عامة، تهتم باستراتيجيات بعيدة ودائمة تسعى لتفعيل الدستور ومباديء حقوق المواطنة وواجباتها، ولا تقتصر على كتلة الناخبين والفاعلين السلطويين أو السياسيين، لأن أي شعب في الدنيا ليس في معظمه من المعنيين بالسياسة وبرامجها، لكن السياسة يجب أن تتوجه إليه وتصون حقوقه، وبالتالي فإن أي حركة أو جبهة أو حزب، لا يمكنها أن تدير ظهرها للأفراد مهما كانت عقائدهم وأفكارهم وتناقضاتهم، طالما هي في إطار الحقوق الدستورية، لهذا أفرق بين اتجاهين: اتجاه سياسي عينه على السلطة، يريد استثمار اللغة والشعارات في الوصول إلى الحكم، وهذا ليس جريمة طالما يتم وفق الآليات القانونية لتداول السلطة، واتجاه يستهدف تطوير المجتمع، وتطوير شكل الدولة نفسه وتحديث آلياتها ومفاهيمها، بحيث تنشأ حركات اجتماعية وثقافية ووطنية تكون بمثابة “نواة” لتفعيل مبدأ “المواطنة”، وتحويل حالة “الناس” إلى صيغة “الشعب” بالشروط المعروفة عالميا لمصطلح “الشعب” في العلوم السياسية الحديثة، حتى لا يظل المواطن عند سلطاتنا مجرد رقم في كشوف الناخبين يتم استغلاله في مواسم واحتفالات تدعوه إليها السلطة وقتما تريد وكيفما تريد، ثم تهشه إلى العشة: بيتك، بيتك.

 (8)

أثق في النوايا الطيبة للجميع، لكنني أرى مليون سيسي يصرخون: يسقط السيسي لكي يجلسوا مكانه ويفعلون ما يفعل، وإن تغيرت الأعذار والمبررات ونوعية الفساد ودرجة الانهزام، وبالتالي وبكل صراحة لا يمكنني أن أراهن على أي شعارات سياسية لا تنطلق من فلسفة (تاني فلسفة؟)، نمشيها لا تنطلق من مفاهيم راسخة تضع مبدأ المواطنة في قلب مشروعها، وبالتالي لايمكن لأحد أو جبهة أو حركة تعترف وتنطلق من حق المواطنة أن تتورط في إقصاء أي مصري يحمل جنسية بلده، وأزيد فأقول حتى لو كان سجينا أو محكوما بالإعدام طالما أن جنسيته لم تسقط ويتمتع بنصيب من حقوقه الدستورية والقانونية، قد أغفر ذلك الانتقاء و”شروط العضوية” للأحزاب السياسية أما الحركات الوطنية فإما أن تكون وعاءً وطنيا جامعاً منفتحا للجميع، وإما أن تنهمك في صراعاتها الحزبية والسلطوية، وتهتم بأجندتها السياسية التي تركز على مصلحة جماعة لا مصير وطن، وأوضح فأقول أن الشروط التي يمكن تطويرها بعد ذلك كوصاية من أهل الوعي والخبر تقتصر على الموقف من الصراع العربي الصهيوني، ومن المحكومين في قضايا مخلة بالشرف، لكن حتى هذين الشرطين ينبغي تأجيلهما لبعض الوقت، حسب موضة “فقه الضرورة”، ونختم الفقرة فلسفة بالمرة فأقول:  لابد من الوجود ثم نكتسب الماهية، لكن حذار ألا تولد إنساناً، لأن الماهية حينها لن تفيدك في شيء.

(9)

لن أطيل أكثر، ولن أتورط في تكسير أي عمل جبهوي، لكن من حقي (الفلسفي على الأقل) أن أضع أمامك بعض الملاحظات الختامية السريعة من وحي إعلان وتشكيل “الحركة المدنية” ربما يروق لبعض الباحثين دراستها:

* الحركة تضم مطبعين مع إسرائيل وتتشدد في ضم فئات أخرى تسميهم بفلول النظام السابق والإخوان، ولم تفرق بين القيادات وبين الامتدادات الشعبية لهذه القيادات والأفكار والتي تزيد عن نصف الشعب المصري، ومع اعترافي بالوعي الزائف وعدم معرفة الشعب بمصلحته، يبقى السؤال: كيف تقود شعباً مريضاً؟ هل ستختار شعبك واحداً واحداً حسب خطبة الديكتاتور الموزونة؟

* بيان الحركة ينطلق من “المواطنة” ثم يحدد لها شروطا حزبية، ويكرر نفس

 إنتاج المطلب المأمول الذي كان يفكر فيه عبد الناصر في إباحة تجربة تعدد الأحزاب، ولكن في إطار اشتراكي، حتى لا يتمكن الرأسماليون أعداء الثورة من تنظيم صفوفهم، لكن الإطار الاشتراكي غاب تحت خيمة الاقتصاد الحر، فتحول الشرط إلى نوع من الاستبعاد على أسس سياسية واتهامات عمومية (لا فردية ولا قانونية) بالفساد والإرهاب.

* الاتجاهات التي نادت بالأممية وتنظيم فئات وقوى الشعب العاملة، ونادت طويلا بالتوافق وهدم الأسوار بين العروبة والإسلام، ودخلت في تجارب للحوار الوطني، صارت في طليعة “التكفيريين الجدد” على أساس من الخبرات السياسية والانتخابية السلبية التي تهتم بالأخطاء أكثر مما تهتم بالمباديء، وتشعل نيران الثأر الذي طالما انتقدت عليه الإخوان في تعاملها مع ثورة يوليو وعبد الناصر.

* إعلان الحركة الذي اهتم بالتوصيف وعرض الأمنيات، يقترب من ملء حالة الفراغ السياسي والانتخابي الذي يهدد النظام بالانعزال، ولا يقدم بديلاً منفتحا لتجبير حالة التكسير والإحباط التي أصابت ما يمكن تسميته بـ”السياسة الشعبية” التي تولدت في أجواء ثورة يناير.

* أخيراً، يبقى سؤال: كيف نصنع شعباً؟ هو السؤال المطروح على مصر، وأي إجابة أخرى (مهما حققت لك ولها من مصالح شخصية)، فهي إجابة خاطئة، وجريمة تاريخية في حق مصر كلها شعباً ودولة، وأخشى أن تستبدل المعارضة صيحة لويس الرابع عشر التي قال فيها “أنا الدولة” لتصبح “أنا المعارضة”، أو “أنا الجبهة”، أو “أنا الحركة”.

ويا أيها الأعزاء كفانا حركات، حركة واحدة تكفي وتحسم، إنها “حركة المواطنين”.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه