مذبحة نيوزيلندا ورعب ألف سنة

 

في نيوزيلندا حيث نفذ برنتون تارنت هجومه على المساجد وقتل العشرات، تبلغ نسبة المسلمين 1.1% من عدد السكان بينما نسبة الهندوس 2.1% أي قرابة الضعف والبوذيين 1.4% أي أكثر من المسلمين، وفي بلده الأصلي أستراليا تبلغ نسبة المسلمين 2.6% والبوذيين 2.4% والهندوس 1.9%.

وإذا نظرنا إلى إحصائيات الدول الغربية الأخرى، سنجد أن نسبة المسلمين مقارنة بالأديان الأخرى عدا المسيحية هي نسبة ضئيلة ولا تسجل أي تفوق عددي مقابل أي دين آخر، لذلك فالسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل يصح أن يوصف تارنت وشركاؤه في الجريمة بأنهم متعصبون بيض يعادون المهاجرين بشكل عام وأنهم من أتباع نظرية “الاستبدال الكبير” كما أوضحت تقارير صحفية غربية؟ 

لو كانت القضية هي نظرية “الاستبدال الكبير” التي ظهرت في أوربا في سبعينيات القرن الماضي وحذرت من طمس العرق الأبيض والهوية الأوربية وسط موجات من المهاجرين غير الأوربيين وغير المسيحيين، لكان عداء المؤمنين بتلك النظرية موجها نحو المسلمين وغير المسلمين من أتباع الديانات الأخرى.

نوادي التعصب الديني في الغرب نشطة بشكل لافت للنظر، وهي مثلها مثل غيرها استفادت من انتشار الإنترنت وتظهر بوضوح في كل مكان، ولكن الإعلام الغربي لم يسلط عليها الضوء لأسباب معروفة، فظلت أفكارهم حكرا على من يريد العلم بها وعلى من يجيد اللغات الأوربية التي يتحدثون بها.

العداء للمسلمين

في إحدى قنوات “القوميين البيض” على يوتيوب، تجد آلاف المقاطع المعادية للمسلمين ومثال على ذلك مقطع يصف اجتياح المغول لبغداد عام 1258، حيث يتحدث الراوي بشكل متشف وكأنه يعيش لحظات نشوة وانتصار وهو يصف ما فعل المغول ببغداد من قتل وسفك دماء، وأطلق على مقطعه “المغول سقوا المسلمين من نفس دواء القسوة الذي صنعوه وهو الموت والدمار”، وقد حقق قرابة السبعمائة ألف مشاهدة ويوجد 92 ألف مشترك في القناة، ولنلقي نظرة على بعض تعليقات مشاهدي الفيديو ويبلغ عددها 5152 تعليقا، عدا الردود الفرعية: 

لقد أدركوا (المغول) من يمثل الشر والسم للبشرية 

قد تكون هذه القصة أفضل قصة للأطفال بالنسبة لي.

أعتقد أن الأوان قد حان لكي يلتفت المغول لعملهم (أي اجتياح بغداد وبلاد الإسلام مرة أخرى). 

يحيا المغول.. يحيى جنكيز خان. 

هل تتخيلون عالما بلا إسلام؟ آآآآه يا رجل، سيكون العالم مكانا أفضل.   

إذن فجزار ذبح جزارا آخر، يبدو الأمر منطقيا بالنسبة لي. 

وعلى هذه الشاكلة، هناك مئات وآلاف النشاطات الافتراضية وغير الافتراضية لا يمكن لأي متفحص أن يجد فيها كلمة واحدة ضد أي دين غير الإسلام، وإن حدث فستكون إشارات عابرة وخجولة ولا تتصف بوجود نمط عداء منظم كما هو الحال تجاه الإسلام، لذلك يتساءل المرء هل البوذيون والسيخ والهندوس وعبدة الأصنام وعبدة الشيطان وحتى الملحدين، لا يشكلون أي خطر على البيض ودينهم؟ 

الإسلام يمثل تهديداً

الجواب هو أن القوميين البيض ليسوا إلا متدينين نصارى شاذين عن القاعدة، وتربوا على سموم تنظيمات تنتشر في الغرب يشغلها ما يعرف بـ 1% أي القلة القليلة المسيطرة، أو النخبة، ويخطئ من يظن أن تلك النخبة تقتصر نشاطاتها على المال والاقتصاد، فالسلطة هي إحدى ركائز عقيدتهم، وبالنسبة لهم الإسلام يشكل تهديدا متجذرا.
تشغل التنظيمات السرية للنخبة في الغرب شبكات متعددة للسيطرة على الشعوب وأخطرها تلك التي تستغل الدين وتصور للشعوب الغربية أن النصرانية في خطر؛ ومن هذا المنظور فهم لا يرون تهديدا في أي دين سوى الإسلام لأنهم ببساطة يعرفون أنه الدين الوحيد الذي يحتوي على مقومات الدولة الناجحة والتي سبق أن أثبتت صحتها ونجاحها لأكثر من ألف سنة. 

لقد شقت الأديان الكبرى عبر التاريخ طريقها ببطء وكثير منها اندثر لافتقاره لقوة وشرعية الرسالة، وإذا نظرنا للأديان الكبيرة الموجودة حاليا، سنجد أن جميعها انتشرت بفعل التزاوج مع السلطة أي أن الملك يعتنق الدين وتتبعه الرعية، فالنصرانية كان لها القيصر الروماني قسطنطين والبوذية كان لها امبراطور الدولة الماورية في الهند أشوكا والزردشتية كان لها امبراطور الفرس قورش.

أما الإسلام، فالأمر معكوس تماما، فالرسالة كانت قوية ومشروعة لدرجة كافية لغرس الإيمان النقي في النفس، والإيمان ولّد العزيمة، والعزيمة تغذت على الإرادة، والإرادة استندت إلى قوة المنطق والحجة وهذه ترافقت مع الشجاعة والحمية التي تميز بها العرب والتي يعتقد الكثير من الباحثين أنها ربما كانت السبب الرئيسي في اصطفاء هذه الأمة لحمل الرسالة، ونتيجة لكل ما تقدم كان الإسلام هو الدين الوحيد الذي أعطى القوة للسلطان وليس العكس.، وهذا الأمر يسبب رعبا لمجموعات غربية معينة منذ أكثر من ألف سنة.

جماعات باطنية

من هنا ينبع عداء جماعات باطنية في الغرب تختبئ خلف ستار الدين والنصرانية منها براء وتغذي الكراهية للإسلام عبر دعايات وافتراءات مستمرة منذ قرون بلا انقطاع وبلا هوادة تخلط مع الحليب الذي يرضعه كل رضيع في الغرب، وتحشى في دماغ كل طفل وهو يترعرع، وإذا افترضنا أكثر الافتراضات تفاؤلا وقلنا إن واحدا في الألف فقط تتأثر شخصيته بتلك العقيدة فنحن نتحدث عن أكثر ربع مليون شخص في الولايات المتحدة فقط.

مرّت عقيدة التحريض الغربية ضد الإسلام والعرب بثلاث مراحل، الأولى كانت ضد الدولة العثمانية واستمرت حتى بدايات القرن العشرين واستخدمت فيها دعاوى الانفتاح والتحرر وربطت الموضة وكشف الأجساد بالتقدم الحضاري ووظفت فيها ماكينة إعلامية عملاقة تروج للبدلة الرجالية الغربية والتنانير القصيرة ومايوهات السباحة على أنها علامات التحضر حصرا وبدون منازع، وأي متخلف عنها يعتبر رجعيا متخلفا عن ركب الحضارة.

التخلف

نجحت الخطة تكاتف في تنفيذها اخطبوطات مال وإعلام ودين وانتهت الدولة العثمانية ولبس المسلمون البدلة الغربية والمسلمات التنورة والبنطلون وصارت القيم الغربية علامة على التحضر والرقي، وفرضت تغييرات جذرية على المجتمع المسلم فاتخذت الساعة الثامنة بدل صلاة الفجر لتكون بداية يوم العمل مما أدى إلى ترك غالبية المسلمين لصلاة الفجر، ورتبت توقيتات العمل بطريقة تمنع الناس من أداء الصلاة خلال اليوم.

بعد ذلك شنت حملة واسعة لتثبيت قيم محسوبة بدقة مثل الاهتمام بالدين يعني التخلف، ومعرفة اللغة الإنجليزية هي مقياس ثقافة وتعليم المرء وإحلال الولاء للقطر بدل الأمة واستبدال البلوغ الشرعي ببلوغ الحلم بشرط بلوغ سن الثامنة عشرة ونتج عن ذلك توقف تزويج الفتيان والفتيات عند البلوغ مما نتج عنه مشكلات اجتماعية خطيرة لا نزال نعاني منها مثل ارتفاع حالات الطلاق والعنوسة.

المرحلة الثانية، والتي بدأت في الربع الثاني من القرن العشرين مع تشكل الدول العربية الحديثة، وارتكزت الدعاية في هذه المرة على ترويج الديمقراطية التي صورت على أنها في مراتب كلمة الرب وأعلى من أي مقدس، وأنها شيء يحل للمرء أن يخون أهله ووطنه ودينه وعقيدته من أجله، وهذه استمرت حتى احتلال العراق عام 2003 وانفراط عقد السيادة العربية بعد ذلك.

تكرست خلال هذه المرحلة نتائج المرحلة السابقة وتزامنت أيضا مع دعم غربي للحركات القومية اليسارية العربية التي كان عليها أن تثبت بدون مواربة أن لا مكان للإسلام في عقيدتها، وكان أمرا ضروريا سواء أرادت الدعم من المعسكر الغربي أم من الاتحاد السوفيتي الشيوعي الذي يقول بعدم وجود إله للكون، الأمر الذي أدى لإمعان القوى السياسية العربية في إبعاد الإسلام كهوية.

المرحلة الثالثة بدأت مباشرة بعد غزو العراق وارتكزت على تحويل أنظار العالم نحو “دموية ووحشية” الدين الإسلامي وترويج اقتباسات مشوهة من القرآن والتراث الإسلامي لتدعم تلك الادعاءات ورافق ذلك حملة غريبة ولافتة للنظر للتشكيك بالتراث ومصادر التشريع في الدين الإسلامي وصلت إلى حد التشكيك حتى بالحقائق التاريخية مثل ادعاء أن أبي بكر رضي الله عنه لم يكن مع الرسول صلى الله عليه وسلم في الغار.

بذكاء ومكر

من جهة أخرى، برزت إلى الواجهة وبتوقيت يدعو للتساؤل حركات تصف نفسها بأنها إسلامية تتبنى العنف والقتل وتعيث في الأرض دمارا وقتلا وتخريبا، ورافق ذلك أضواء إعلامية مركزة لا تترك شاردة أو واردة من أخبار تلك الجماعات إلا وأبرزتها، حتى ترسخت في أذهان العالم المعادلة التالية: قرآن + إسلام = إرهاب.

خلال جميع المراحل، كانت الماكينة التي تدير الحرب ضد الإسلام تتصرف بذكاء ومكر شديدين، فإلى جانب الدعم الإعلامي الذي قدم لها من حيث تدري أو لا تدري فقد استطاعت أن تضع قوانين إعلامية صارمة، فأي حادثة يتورط فيها مسلم أو مسلمة يتم تناولها بأنها تمثل الإسلام وأي عمل عنف يتورط به نصراني يتم تناوله بمعزل عن النصرانية ولا يزج باسمها في القضية، أي أن المتهم المسلم يسمى إسلامي بينما المتهم النصراني يسمى قومي أبيض أو عنصري.

تمتلك الماكينة الغربية الخفية أساليب مثيرة للاهتمام في ترويج آرائها، ومن الصعب اكتشافها، فمثلا لا يعلم أحد كيف انتشر فجأة تكتيك رمي “نظرية المؤامرة” في وجه كل من يحاول تشخيص الأخطار التي تحدق بالعالم العربي والإسلامي، وهو تكتيك استخدم بعد أن أصبحت المصائب تتوالى على العالم العربي بشكل يصعب التصديق معه بأن الأمور تجري بدون تخطيط مسبق.   

مثال آخر، اليوم في الولايات المتحدة، إذا أخبرت أي أمريكي بأنك ذاهب إلى تركيا سيكون الرد واحد وكأنه ملقن من شخص بعينه “تركيا بلد جميل ولكنه أصبح غير آمن” في إشارة إلى الانقلاب عام 2016 وفشل الحكومة التركية المحسوبة على الإسلاميين، ويجب أن ننتبه أن هذا الجواب يأتي وسط غياب كامل لأي تقارير إعلامية تتحدث عن حالة أمنية هشة في تركيا، فكيف لقّن الشعب الأميركي بهذه العبارة وعبر أي قناة؟

الماكينة

من جهة أخرى، استطاعت الماكينة الخفية حتى استغلال الأحداث واستثمارها لربط الإسلام بالعنف والإرهاب ونجحت في كبت جماح المتزمتين من أتباعها واحتواء الغيظ الذي زرعته فيهم ليوم محسوب، لأن قضيتها بنيت على أساس أن الإسلام دين يغذي العنف والقتل بينما النصرانية على العكس من ذلك، وأخبار القتل الذي نسب لتنظيم الدولة وغيره من التنظيمات التي تصف نفسها “إسلامية” في السنين الأخيرة كان خير عون.

ولكن رغم التخطيط الحريص والجاد، فإن ذلك لم يمنع أن تفلت الأمور من عقالها من حين لآخر، والهجوم على مسجدي نيوزلندا لم يكن الأول ولن يكون الأخير، ولكن إلى متى ستتمكن تلك الجماعات المتطرفة التي تسعى لتسيد العالم من كبح جماح الحقد الذي زرعته في نفوس أتباعها من عامة الشعوب الغربية؟ وماذا لو قرر المزيد من أتباعها العصيان وتنفيذ هجمات ضد المسلمين؟

إن أهم خطوات الحل لتلافي مأساة أخرى أن تسمى الأسماء بمسمياتها وأن يبدأ العرب والمسلمون بأنفسهم أولا وأن يتحلوا بالشجاعة لوصف مجزرة مساجد نيوزيلندا بأنها عمل نصراني إرهابي ارتكبه نصراني متطرف يحمل أفكارا شاذة، ولا بأس أن نقول بأن النصرانية منه براء، رغم أن الطرف الآخر لا يقول ذلك عندما يتحدث عنّا، لأن هذه هي الطريقة الوحيدة التي ستجبر الطرف الآخر على التفكير مليا في المضي بسياسة ربط الإسلام بالإرهاب واستغلالها لحشد الأتباع.

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه