متى تبلغ المعارضة المصرية حالة الرشد؟!

لا أضع وزنا ثقيلا لمبادرة أو وثيقة التوافق الوطني التي أعلنها الفنان والمقاول محمد علي، ولا أزعم أنها سفر الخروج من المأزق السياسي الراهن، ولا وثيقة المدينة الفاضلة، التي ستنقل مصر من حالة شبه الدولة إلى حالة “الدولة الأوربية” التي يبشر بها صاحبها، بل أعتبرها مجرد جهد مشكور لصاحبه يضاف إلى جهود ومحاولات عديدة سابقة سعت جميعها لتقديم اجتهاداتها لإنقاذ الموقف، ونالت بذلك أجر المجتهد حتى وإن أخطأت.

أستغرب فقط من الذين انتقدوا المبادرة دون أن يقدموا بديلا، وهذا ليس جديدا على الكثيرين منهم فقد اعتادوا أن ينشطوا فقط في مواجهة أي مبادرات أو محاولات لتوحيد الصف الوطني والثوري، كما أنهم ينشطون في فترات الركود في صناعة معارك وهمية وملاسنات جانبية، تقدم مادة دسمة للنظام وإعلامه، وتوسع الهوة بين الشعب والقوى المناهضة والمعارضة لحكم السيسي.

لم يكن الانقلاب على ثورة يناير وما أنتجته من مسار ديمقراطي أفرز برلمانا حرا ورئيسا مدنيا عملا بسيطا، أو بجهد السيسي وعصابته داخل مصر فقط، بل كان بترتيب ودعم إقليمي ودولي، ساهمت فيه حكومات ومخابرات عدة دول أبرزها السعودية والإمارات والكيان الصهيوني، ولا تزال هذه الدول هي الداعم الأكبر لنظام السيسي حتى هذه اللحظة، ولا تزال هي المنقذة له في كل مرة يتعرض لاهتزاز، وهذا مهم في معرفة طبيعة المعركة التي يخوضها مناهضو الانقلاب، بدون دعم يماثل 1% مما يتلقاه نظام السيسي، ولا يدعي أحد أن تركيا وقطر تقدمان دعما كبيرا، صحيح أن الدولتين وقفتا ضد الانقلاب العسكري بشكل مبدئي، وصحيح أنهما احتضنتا الفارين من جحيمه، لكنهما لم تقدما أكثر من ذلك بل إن قطر اضطرت في إطار مواءمات سياسية خاصة بها إلى إبعاد كل القيادات الإسلامية المعروفة.

طبيعة المعركة:

هذه المعرفة بطبيعة المعركة لا تبرئ المعارضة المصرية من حالة الضعف  والتفرق التي تنتابها حاليا، ولكنها دافع لهذه المعارضة لتطوير أدائها والاعتماد  بعد الله على نفسها وعلى شعبها في مساعيها لإنقاذ الوطن، ومخاطبة الشعب تحتاج إلى خطاب أكثر حكمة ونضجا، وأكثر تماسا مع مشاكله وهمومه، وفي نفس الوقت تقديم صورة أكثر إقناعا لهذه المعارضة بديلا عن الصورة الحالية التي تشوهت كثيرا ليس فقط بفعل دعايات أذرع النظام، ولكن أيضا بسبب تصرفات الكثيرين من المحسوبين على المعارضة نفسها الذين أصبح بأسهم بينهم شديد، والذين يصرفون جل وقتهم في تسفيه بعضهم، وتشويه أي جهد لمواجهة نظام السيسي، وهم بذلك يقدمون له ولو بطريقة غير مباشرة خدمات جليلة بلا مقابل.

في ظل هذا المناخ المأزوم فإن أي شخص أو كيان يقدم اجتهادا لإنقاذ الوطن يستحق التقدير، حتى وإن كان للبعض تحفظات على هذا الجهد، وليكن معلوما أن محاولات تجميع الصف الوطني على مبادئ عامة مقبولة من الجميع يعني أنك تبحث فقط عن المشتركات بين القوى والتيارات المختلفة، وأنك تنحي جانبا الأمور الخلافية، التي يحق لكل طرف أن يحتفظ بوجهة نظره فيها، ويدافع عنها، ويسعى لتسويقها، فمثلا لا يختلف أحد على ضرورة الخلاص من نظام السيسي، ولا يختلف أحد على إقامة دولة مدنية ديمقرطية حديثة ولا يختلف أحد على نبذ الانقلابات وتجريمها، ولا يختلف أحد على احترام الإرادة الشعبية، ولا يختلف أحد على النهوض بالمجتمع، ولكن بالتأكيد ستكون هناك خلافات حول دور الشريعة في المجتمع وحول شكل نظام الحكم هل هو رئاسي أم برلماني، وحول الهوية التي يراها البعض إسلامية ويراها البعض علمانية أو  فرعونية ويراها آخرون إنسانية عامة الخ، وهي من القضايا الكبرى التي لا يترك حسمها لغرف مغلقة أو نخب محنطة، بل يحسمها الشعب بطريقة حرة شفافة، وبالتالي فليس متوقعا أن تستطيع أي مبادرة حسم هذه النقاط الخلافية التي تحتاج إلى سنوات من النقاش الحر للوصول إلى صيغ مقبولة من الجميع تصبح ثوابت مجتمعية لاحقا مثل غيرها من القضايا محل الاتفاق، وهذا يعني في المجمل اننا نتعاون في المشتركات إنطلاقا من القاعدة الذهبية “نتعاون فيما اتفقنا فيه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا عليه).

التجارب الملهمة

لسنا بدعا من الأمر، فقد سبقتنا شعوب عانت مما نعانيه، وكان لها تجاربها الملهمة في مقاومته والانتصار عليه، واللافت أن وضع المعارضة فيها كان يشبه إلى حد كبير وضع المعارضة المصرية الحالية، لنأخذ مثلا من تشيلي التي حكمها الجنرال بينوشيه بعد انقلاب عسكري أطاح بالحكم المدني عام 1973، وظل بينوشيه قابضا على السلطة بشكل منفرد لمدة 15 عاما ، ولكنه أعلن في العام 1980 تعديلا دستوريا يقضي بإجراء استفتاء بعد 8 سنوات على حكمه (أي في العام 1988) وهو الاستفتاء الذي انتهى بالتصويت بنعم على الخلاص من حكمه بنسبة 56%، لكن كيف حدث هذا النجاح؟

عاشت المعارضة التشيلية لمدة 15 عاما تحت حكم بينوشيه في حالة تفرق وتلاسن، بين مجموعة من أحزاب يسارية وأخرى يمينية، (16 حزبا)، كانت ترفض التعاون مع بعضها ضد النظام، بل كانت تكيل الاتهامات لبعضها، لكنها اضطرت أخيرا للتحالف بهدف إزاحة بينوشيه تحت شعار (القيادة من أجل لا (The Command for the No) ، وضعت المعارضة خلافاتها الأيديولوجية جانبا، وكذلك رؤاها المتعارضة حول شكل الدولة والحكم بعد بينوشيه، واتفقوا جميعا على هدف واحد هو الخلاص من بينوشيه ومجلسه العسكري، وإعادة الحكم المدني،  صحيح أن هناك عوامل أخرى ساعدت على الخلاص منه مثل تردي الوضع الاقتصادي وتدخل الولايات المتحدة وانضمام الكنيسة إلى الحراك المناهض له، لكن كل ذلك لم يكن ليجدي نفعا لو ظلت المعارضة على تفرقها.

تكرر الوضع في حالة جنوب أفريقيا تحت الحكم العنصري الذي استمر لثلاثة قرون، وحين دعا الحزب العنصري الحاكم إلى استفتاء دستوري عام 1983، وشعر الجميع بمزيد من الخطر الذي ينتظرهم مع إقرار هذه التعديلات التي تكرس الفصل العنصري عمليا وإن أدخلت تحسينات شكلية، كانت المعارضة أيضا ممزقة بين عشرات الكيانات والأحزاب، ولكن شعور الجميع بالخطر دفعها لتناسي خلافاتها وتشكيل تحالف واسع غير عنصري من السود والملونين والهنود وحتى مجموعات من البيض، من الأحزاب والجمعيات المدنية والنقابات العمالية والاتحادات الطلابية والكنائس لمواجهة هذا الخطر الجديد تحت مسمى الجبهة الديقراطية المتحدة(United Democratic Front – UDF)، وقد اتفق الجميع على مقاطعة الاستفتاء تجنبا لاختلاف المواقف بين التصويت بنعم أو بلا ، وإلى جانب نجاحها في دفع الشعب للمقاطعة حيث بلغت نسبة المشاركة 20% فقط، فقد بدأت الجبهة الديمقبراطية في تنظيم فعاليات مشتركة نجحت أخيرا في الإطاحة بالنظام العنصري

انقاذ الوطن

ليس معلوما كم من الوقت تحتاج المعارضة المصرية بكل فصائلها الإسلامية والليبرالية واليسارية حتى تتحد على هدف واحد وهو إنقاذ الوطن وتخليصه من هذه العصابة الجاثمة على صدره، مع تأجيل أي خلافات أخرى لوقت لاحق تتمكن فيه من إجراء نقاشات حرة ومعمقة حولها؟ وإن كان معلوما أن تأخرها في الوصول إلى هذه الصورة يطيل عمر النظام القمعي، ويزيد الهوة بينها وبين الشعب، ويخرجها خارج دائرة التاثير بل خارج دائرة التاريخ.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه