ما وراء اخراج مؤسس “ويكليكس” من سفارة الإكوادور بالقوة؟

 

 تجندت وسائل الإعلام العالمية ووسائل التواصل الاجتماعي لمتابعة خبر إخراج مؤسس ويكيلكس جوليان أسانج من السفارة الإكوادورية في لندن بالقوة، وسط استنكار واضح، خصوصا وأن ما حصل يندرج في إطار الحرب على حرية الصحافة، وأسانج مُصنّف في مرتبة الصحفي الأكثر إزعاجا في العالم، بل وتهديدا للسياسيين. لكن السؤال الذي يطرح نفسه لدى مهملي تفاصيل هذه القضية هو: كيف تحولت الحكومة الإكوادورية إذن من فاتح باب اللجوء الوحيد لأسانج في 2012 إلى مُلقٍ به الى السجن أو حتى الإعدام، وهو المطلوب دُوليا في الحالتين؟

للأسف لم يجد الخبر حظه في وسائل الإعلام العربية، وعلى راسها الجزيرة، وسط غمرة “العّواجل” القادمة من السودان، على عكس التدفق والمهنية التي أتحفتنا بها منذ سبع سنوات في خبر احتضان السفارة الإكوادورية له أيام تقطّعت به الأسباب، وربما كان الفضل لها حينها أن عرفنا أشياء عن هذا البلد من أهمها موقعه على الخريطة وطبيعة سياسته الشجاعة التي أقدمت على إيواء صحفي مطلوب من القوى العظمى. بين ذلك التاريخ واليوم إذن تغيّرات كبرى تستحق الذكر لفهم مايجري.

بداية الحكاية

   في سنة 2012 كان جوليان أسانج في حالة سراح شَرطي في لندن وكان القضاء السويدي قد أطلق بشأنه أمر اعتقال أوربي، والقضاء البريطاني يتأهب لتنفيذ ترحيله إلى السويد، قبل ذلك وبعده، عرف موقعه ويكيلكس شهرة لا مثيل لها بنشره مئات آلاف الوثائق العسكرية والمالية التي تكشف أسرار حكومات مثل الولايات المتحدة وسويسرا، وعلى الجانب الآخر، كان رافاييل كوريا، المُعحب بتحدّي أسانج، مزهوّا بفوزه بفترته الرئاسية الثانية للإكوادور ومنتشيا بخطاب معاداة الولايات المتحدة أسوة بزعيمه الروحي تشافيز. في أبريل/نيسان من السنة نفسها، والعالم تعصف به الثورات والاحتجاجات من صنعاء إلى وول ستريت، يُجري أسانج حوارا في برنامجه المشهور “عالم الغد” الذي تبثه قناة “روسيا اليوم” ويبدو الانسجام بين المحاور وضيفه واضحا. بعد شهر واحد تعلن المحكمة العليا في لندن أمرا بترحيله، وعلى إثر الحكم، يتوجه أسانج إلى السفارة الإكوادورية هناك طلبا للجوء الدبلوماسي وينال حق الإيواء وسط تهديدات القضاء البريطاني باقتحام السفارة واعتقاله.

في شهر أغسطس/آب وافقت الحكومة الإكوادورية على مطلبه وصُنّف لاجئا رسميا هناك، وقد أشاد الرئيس الإكوادوري كورّيا حينها بأن أسانج مناضل من أجل حرية الكلمة.

 في 2017، انتهت فترة رئاسة رافاييل كورّيا وخلَفه نائبه لينين مورينو على أساس أنه امتداد لبرنامجه السياسي الاجتماعي، لكن ماهي إلّا أشهر معدودات وبدأ الخلاف يطفو على السطح، ثم بلغ أشدّه وتم انشقاق الصّف. غادر كورّيا الإكوادور إلى بلجيكا (بلد زوجته ويستقر فيها إلى اليوم) وسط تهديدات بالمنع من السفر وتفرّغ الرئيس الحالي مورينو لكشف عيوب حقبة خصمه وتشويهها خصوصا وأنها اتّسمت في نظر الراي العام الداخلي والخارجي بأنها الحقبة المشرقة من تاريخ الإكوادور السياسي والاقتصادي.

العداوة

وقد اشتدّ مستوى الخلاف بين الخصمين حتى أصبح عداوة واضحة وظهر الخط السياسي المختلف جدا الذي اتبعته الإكوادور مع الحكومة الحالية. حكومة اعتبرت أسانج مثلا، ثِقلا من الماضي لا ينسجم مع الحاضر، وقد شبّهه الرئيس مورينو يوما في حوار تلفزيوني، بأنه بمثابة “الحجرة العالقة في الحذاء محكم الغلق” للتعبير عن انزعاجه من وجوده. وقد كان ذلك تعبيرا واضحا حتى لأسانج نفسه بقرب نهايته.

 لكن الغريب بعد ذلك التصريح أن الرئيس مورينو منح أسانج الجنسية الإكوادورية التي لم يحلم بها حتى من كورّيا. لم يدم الاستغراب طويلا، إذ كشفت صحيفة الغارديان البريطانية أن الجنسية مُنحت لاسانج مباشرة بعد لقاء جمع الرئيس مورينو في العاصمة الاكوادورية برئيس حملة ترمب بول مانفورت في شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2018. ونفس الجريدة أكّدت (محتفظة بمصادرها من داخل السفارة الإكوادورية في لندن) أن مانفورت التقى أسانج في ثلاث مناسبات هناك، آخرها في 2016، أي قبل أن ينشر موقع ويكيلكس مضامين رسائل هيلاري كلينتون الإلكترونية والتي كانت تقريبا سببا في هزيمتها أمام خصمها ترمب. بينما أنكر أسانج ومانفر أي اجتماع لهما في السفارة الاكوادورية.

 وقد أوّلت بعض وسائل الإعلام البريطانية والأمريكية تلك الأخبار حينها اهتماماً بأن الأمر لا يعدو أن يكون صفقة لعبها ترمب بوعد أسانج بالحرية مقابل هزيمة هيلاري كلينتون، لكن الأمر توقف عند ذلك الحد، إذ فاز ترمب وبقي أسانج رهين السفارة. وربما يحتمل هذا التأويل مصداقية إذا اعتبرنا أن ترمب لم يرغب أو لم يقدر على الإيفاء بوعده فخيّر التخلص من أسانج قبل أن يفعل معه في الانتخابات الرئاسية القادمة ما فعله مع هيلاري كلينتون. وهو احتمال ليس بالساذج إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن أسانج لم يعد بالقوة التي كان عليها قبل مايو/أيار 2017 (بداية رئاسة مورينو) فظروف إقامته أصبحت تحرمه حتى من التواصل الحر والتمتع بشبكة الإنترنت. ويبدو أن الوضع اليائس نوعا ما، جعل أسانج يعيش أسوأ فترات المرحلة وجعل مدير موقعه ويكليكس ينخرط في حملة شيطنة للرئيس مورينو يقودها خصمه كورّيا تتهمه بالفساد في قضية عُرفت بـ”إينا بايبرز”، وقد وصل الأمر مؤخّرا الى قرصنة الهاتف الخاص لمورينو ونشر صور خاصة به وبعائلته لإثبات البذخ الذي عاشه بالمال الفاسد. الخطوة التي اتهم فيها مورينو ويكيلكس رأسا واعتبرتها حكومته خرقا لسيادة البلد وعدم احترام لمعايير التعايش المنصوص عليها في اتفاقيات اللجوء، ما أدى إلى سحب اللجوء والجنسية من أسانج.

لا شيء يدعو للغرابة

   لكن في المقابل اعتبر مناصرو أسانج وعلى رأسهم كورّيا أن هذه الخطوة الجريئة والخطيرة هي مجرد انتقام شخصي مارسه مورينو على أسانج، كيف لا وقد ثبت أن الخبر الذي نشره موقع ويكيلكس بشأن امتلاك شقيقه لحساب في بنما صواب وقد أكده بنفسه مُبررا هذا بأنه حساب لاستقبال أموال شريك أجنبي له.

    في الحقيقة، لا شيء يدعو للغرابة من فرحة الحكومات بالتخلص من هذا الخطر المتربص بأسرارهم وكتم صوته، فهذا رد فعل طبيعي لأن أغلبها متورط في شيء ما. لكن الأكيد أن أسانج ولو واجه عقوبة الإعدام أو المؤبد كما توحي بذلك التهديدات الأمريكية، فإنه مشروع خارق مُرعِب قابل للتكرار لا محالة.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه