ما لله لله وما للوطن للوطن

 

سأقف معكم عند الجدل الذي ثار حول اتهام الفتاة ابنة الفنان شريف منير للراحل الشيخ محمد متولي الشعراوي بأنه متطرف، الأمر الذي أثار جدلا كبيرا بين من اعتبروا هذا التصريح نوعا من الجهل والتطاول ليس فقط على رمز من رموز الدين وإنما على الدين ذاته، وبين جبهة أخرى ترى أن الهجوم الشرس على الفتاة فيه إرهاب لحرية الرأي والتعبير، وكالعادة تعمق الصراع وتحور ونتج عنه صراع بين فرق مؤمنة وفرق مارقة أو مرتدة أو كافرة.

وقفتي عند هذا الحدث لا تتعلق بموضوع الخلاف إطلاقا، ولا باختلاف الآراء، ولكنها تتعلق بالكشف عن مخاطر ساحات الاحتراب الكثيرة التي يتم تصنيعها بقصد أو من دون قصد، وخطورتها على رؤيتنا ومحاولتنا الخروج من مستنقع الاستغلال والظلم والقهر والقمع الذي نعيش فيه.

استراتيجيات الإلهاء

تحدثت في مقالات لي من قبل عن سياسات واستراتيجيات الإلهاء التي يتبعها الفاشيون وحكام النظم الفاسدة، وتعرض لها كثير من الكتاب والمفكرين مثل المفكر والناقد والفيلسوف الأمريكي نعوم تشومسكي، والذي كتب مقالا بعنوان 10 استراتيجيات للتحكم في الشعوب، كشف فيها عن وثيقة سرية يعود تاريخها إلى مايو (أيار) 1979. وتم العثور عليها سنة 1986. وتحمل عنوان: «الأسلحة الصامتة لخوض حرب هادئة»، وهي عبارة عن كتيب أو دليل للتحكم في البشر والسيطرة على المجتمعات، واستعرض «تشومسكي» الاستراتيجيات العشرة التي تتبعها الأنظمة للسيطرة على الشعوب وكان مقدمتها استراتيجية الإلهاء وجاء فيها كما ورد في الوثيقة السرية «حافظوا على تحويل انتباه الرأي العام بعيدا عن المشكلات الاجتماعية الحقيقية والهوه بمسائل تافهة لا أهمية لها. ابقُوا الجمهور مشغولا، مشغولا، مشغولا دون أن يكون لديه أي وقت للتفكير، فقط عليه العودة إلى المزرعة مع غيره من الحيوانات الأخرى».

وفي الوقت إلى يبدي الجنرال رئيس الدولة قلقه الشديد من الانتقادات الغاضبة للنظام الحاكم على وسائل التواصل الاجتماعي، يتزامن مع هذا القلق هجوم فرق إلكترونية منظمة لفرض موضوعات ومسائل تافهة تشعل الجدل الشديد حولها ويتم دسها بعناصر متدربة جيدا (على حد تعبير الجنرال في خطابه الأخير)، وللأسف يقع فيها الكثير من المواطنين ويلتقط بعضهم الطعم من دون قصد والبعض الآخر يتفاعل مع الطعم باعتبار أن هذه الموضوعات، ساحة صراع تختفي فيها انتهازياتهم وجبنهم وخوفهم من التفاعل مع مشكلات الوطن الحقيقية، وهو ما تطلق عليه الفئات الشعبية المصرية «النضال في الوسع»، أي النضال بلا ضريبة ولا مخاطر.

الجهاد الوهمي

في ملهاة الشيخ الشعراوي وابنة الفنان ظهرت أصوات كثيرة تصرخ في حماس للدفاع عن الشيخ وتعتبر كلمات ابنة الفنان هجوم على الإسلام والمسلمين والإيمان، وتفرعت الأصوات إلى ممرات طائفية بعد أن تسأل البعض لماذا لم تنتقد ابنة الفنان رجال الدين المسيحي، وارتفعت نبرة الجهاد وظهرت وجوه مجاهدة على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي تلهب المشاعر الدينية للمسلمين وتطالبهم بالانتفاضة والجهاد وكأن كفار قريش على الحدود يستعدون للإجهاز على الدعوة الإسلامية، وفي الجبهة الأخرى يقف بعض من أصحاب الاتجاهات العلمانية يخوضون معركة الشعراوي وكأنها معركتهم المصيرية ضد دواعش يهددون حياتهم، وفي خضم هذا الصراع تاهت مأسي اجتماعية كثيرة انعكست في أحداث مؤلمة مثل ضحايا الإهمال في موسم الأمطار، وشهيد تذكرة القطار وغيرها، وبدلا من تضافر المنهوبين والمظلومين والمقهورين من أجل البحث عن خلاص لهم، انشغلوا بحرب مقدسة وهمية موضوعها الدفاع عن الشيخ الشعراوي والعقيدة.

الخطورة هنا أن بعض المنخرطين في هذه الإلهاءات مقتنعين بها ويظنون أنهم مجاهدين في حرب مقدسة وهؤلاء قسمين، القسم الأول هو من يجد في هذه الحروب والمواجهات فرصة لكسب ثواب الجهاد دون أى أضرار دنيوية، وهؤلاء معظمهم من أصحاب المصالح التي يخشون عليها إذا ما واجهوا مشكلات اجتماعية حقيقية، هم من يطلق عليهم المصريين أصحاب «الحجة والحجيجة»، تجدهم محجوبين غير ظاهرين في الثورات على الظلم، غير متفاعلين مع المشكلات الاجتماعية ومشكلات الوطن، وفي مشاهد الحروب المقدسة الوهمية أشاوس ومجاهدين بلا خسائر.

أما القسم الثاني فهم الذين يقعون تحت تأثير هذه الإلهاءات ويتفاعلون معها بعنف تاركين شؤون دنياهم ومآسيهم وهمومهم تحت تأثير حالة من الدروشة غير الواعية! ليصبحوا لقمة سهلة للطغاة والمغتصبين.

للبيت رب يحميه

عندما هاجم أبرهة الكعبة وأراد هدمها كان عبد المطلب بن هاشم جد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو كبير مكة والمحافظ على مقدساتها وخاصة الكعبة التي كان لها قدسية خاصة عند العرب قبل نزول الرسالة المحمدية، واهتم عبد المطلب بالابل والنوق التي هي ثروة قبيلته، وبأرواح أهل القبيلة فاعتصموا بجبل يحميهم من جيوش أبرهة، وعندما سأله أبرهة أتترك الكعبة والتي تراها بيت الله لتحمي الإبل والنوق كانت مقولته المشهورة «إن للبيت رباً يحميه»، لم يكن عبد المطلب متخليًا عن عقيدته ولكنه أدرك بعقلية المسؤول أن دوره في الأرض وقضيته الأساسية هي حماية قبيلته وثروتهم، أما العقيدة فهي دائما في حماية الرب أولا، وثانيا مسؤولية من يسخره الله في الأرض للدفاع عنها، هي أولويات منطقية اكتشفها عبد المطلب قبل نزول الرسالة، ولم يدركها المسلمون في القرن الحادي والعشرين!

الروح العملية الأمريكية

الشائع أن المواطن الأمريكي يمتلك ميزة ونقيصة، وأما النقيصة فهي جهلة المدقع بالشؤون السياسية وخاصة العالمية، وأما الميزة فتتعلق بوعيه الشديد بحقوقه ومصالحه ومصالح المجتمع والحرص الجماعي على المعايير والثوابت المجتمعية العامة، هذا ما يفسر العلاقة المتوازنة بين النظام الحاكم والمواطنين في الولايات المتحدة، ومن الصعب تطبيق سياسة الإلهاءات عليهم وربما من المحال.

في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي زار أحد الواعظين مارلين منرو في إحدى الحفلات وقال لها: «إن إلهي أرسلني إليك»، فردت عليه قائلة: «لا أحتاج إلى الله هذا».

ورغم بشاعة التصريح، ورغم انتشار المتدينين الأمريكيين في هذه الفترة، إلا أن المجتمع الأمريكي لم يلتقط الطعم أو يتفاعل معه، فقد كانت هناك حروب مجتمعية كثيرة تحيط به وخاصة الآثار الخطيرة للمكارثية في ذلك الوقت والتي هددت الحريات والمفكرين والمثقفين، واستمر تأثيرها حتى بعد الإطاحة بالنائب جوزيف مكارثي الذي اقترب من تدمير المجتمع الأمريكي باسم حماية الوطن من الشيوعية، ولم يخرج المتدينون الأمريكيون للشوارع يطالبون برأس المارقة الملحدة مارلين، ولكنهم انشغلوا واهتموا بأزمات المجتمع، وتركوا الرد على إلحاد مارلين منرو للرب، ولو كانوا تفاعلوا وانشغلوا عن مشكلاتهم المجتمعية ربما انهارت منظومة الحريات التي يتمتع بها المواطن الأمريكي حتى الآن.

وغير حقيقي أن معظم أهل الغرب منحلين وغير متدينين كما يشاع، وإلا انهارت هذه المجتمعات، بل على العكس حققت هذه المجتمعات تفوقا وتقدما وتميزا مكنها من السيطرة والهيمنة على مجتمعات الشرق المهمومة والمشغولة باحترابات بين شعوبها على أشكال التدين ومستويات الإيمان.

ما لله لله وما للوطن للوطن

ما لله هو الإيمان به والالتزام بتعاليمه التي تدفع صاحبها نحو الخير والسلام واحترام الطقوس وقواعد العبادات.

ما للوطن هو الدفاع عن حقوق المواطنة لكل من يعيش على أرضه والتكاتف من أجل حماية مبادئ الحرية والعدالة الاجتماعية للجميع.

والمشترك بين الله والوطن هو قول الحق في وجه الحاكم الظالم، وألا يخشى الإنسان في الحق لومة لائم.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه