ما لا تعرفه عن مكتبة السليمانية

 

يعرف الكثيرون من زوار إسطنبول جامع السلطان سليمان القانوني أو جامع السليمانية الذي يظهر بمآذنه المرتفعة وقبابه الكثيرة متعددة الأحجام التي تحيط بكامل سطحه معتزا بمكانته وبموقعه المتميز على تلك التلة المرتفعة المطلة على الخليج الذهبي، الأمر الذي يمنحه هيبة وبهاءً قلما نجدهما في أي جامع من جوامع الإمبراطورية العثمانية رغم كثرتها وفخامتها وتميز كل منها.

فالسليمانية بحق ومن دون أدنى مبالغة هو الجامع الذي فاق آيا صوفيا جمالا وبهاءً وروعة وشموخا، كما أنه يعد واحدا من أجمل الآثار المعمارية للدولة العثمانية، الذي يثبت عمليا تفوق العمارة الإسلامية على نظيرتها البيزنطية.

ورغم تلك الأهمية التاريخية والمعمارية لا يمكن اعتبار السليمانية مجرد جامع ضخم يتصدر أعلى تلة من التلال السبع التي أقيمت عليها مدينة إسطنبول، متصدرا مدخل القرن الذهبي، مشرفا بطلته البهية المملوءة فخرا وكبرياءً على أحياء المدينة القديمة والحديثة.

جولة في أكبر جامعة

 فالسليمانية في حقيقة الأمر يتعدى هذا الوصف، كونه يعد مركزا علميا ومجمعا ثقافيا يضم في منتصفه الجامع الذي سمي باسم السلطان، وهي المعلومة التي يجهلها الكثيرون، لذا دعوني أصحبكم في جولة تاريخية وثقافية نتعرف من خلالها على أكبر جامعة إسلامية عرفها العالم أجمع خلال فترة حكم العثمانيين.

 حينما أمر سليمان القانوني ببناء الجامع الكبير، في القرن السادس عشر، أمر أيضا بإلحاق عدد من المدارس به، فتم إنشاء المدرسة الأولى والثانية في الجهة الشمالية للجامع، كما تم بناء حمام في الجهة الشمالية الشرقية له، ودار للحديث في الجهة المقابلة للمحراب، وبنى المدرسة الرابعة في الجهة الجنوبية، أما المدرسة الثالثة فتقع في الجهة الشرقية، بينما تقع مدرستا الطب والصيدلة ودار الشفا في الجهة الغربية، إلى جانب مدرسة الملازمين ومكتب الصبيان حيث كان يتم تعليم الصغار، وعمارة لإسكان الطلاب والزائرين، ومطبخ ودار للضيافة.

وبلغ عدد الدفاتر التي سجلت فيها حسابات إنشاءات جامع السليمانية ومدارسه ومكتبته 164 دفترا محفوظة حاليا في أرشيف جامع توب كابي بإسطنبول.

لقد كان جامع السليمانية ومدارسه المتعددة بمثابة جامعة إسلامية كبيرة، لعبت دورا مهما في الحياة العلمية والثقافية لمجتمع الإمبراطورية العثمانية

حكاية المكتبة

أما مكتبة السليمانية التي أمر السلطان القانوني بتأسيسها خلال الفترة من 1545م – 1557م، فأصبحت تتمتع بسمعة عالمية عظيمة بسبب ما تحويه بين جنباتها وعلى أرففها من نفائس ونوادر المخطوطات والكتب والوثائق

وهو ما أهلها لتتبوأ مكانة علمية متميزة، تزايدت أهميتها مع انتقال الكثير من مكتبات إسطنبول العامة والخاصة إليها، لتصبح بذلك من أكبر المكتبات الإسلامية التي عرفها العالم، بعدد من المخطوطات يتخطى سبعين ألف مخطوطة، مكتوبة باللغات العربية والتركية والفارسية.

وتعد مكتبة جامع السليمانية الصغيرة، التي اُقيمت في البداية داخل الجامع، هي النواة التي بنيت عليها المكتبة الحالية، التي تم نقلها إلى المدرسة الأولى والمدرسة الثانية اللتين أصبحتا تمثلان الآن مكتبة السليمانية العامة بعد أن اُضيف إليهما مكتب الصبيان المجاور للمدرسة الأولى، وذلك عام 1925م، إلا أنه بعد أن تم ترميمه عام 1957م اُعيد للأطفال ولكن هذه المرة على شكل مكتبة عامة للقراءة والاطلاع، حيث بات يعُرف باسم ” مكتبة السليمانية للأطفال”

وتذكر المراجع التاريخية أنه تم نقل العديد من المكتبات الوقفية والخاصة إلى مكتبة السليمانية العامة بعد تأسيسها، ومنها المكتبات الوقفية التي نقلت في عهد السلطان ياووز سليم الأول كمكتبة عاشر أفندي، وبشير أغا، وحافظ أحمد باشا، وأسعد أفندي وغيرهم

كما نقلت كافة المكتبات التي كانت موجودة في التكايا والزوايا والأضرحة بعد أن تم إغلاقها عام 1922م، عقب صدور القانون رقم 677 في العام نفسه، والذي قضى بإغلاقها، ونقل الكتب الموجودة بها إلى المكتبات، فتم على إثر ذلك نقل عدد من تلك الكتب بين العامين 1926- 1931م إلى مكتبة السليمانية، كما تم نقل مكتبات مجالس الطرق الصوفية ووضعها في القسم العام للمكتبة

 إتلاف وسرقة المخطوطات

ورغم أهمية ما تحويه مكتبة السليمانية من كنوز علمية وأدبية وتاريخية فإن المحافظة عليها تمت بصورة بدائية في أول الأمر، حيث تم تخزين المخطوطات التي نقلت إلى المكتبة منذ تأسيسها في الخزانات الخاصة التي كانت موجودة بالفعل، والكتب التي لم تتسع لها الخزانات وُضع جزء منها على أرفف خشبية بسيطة، ووُضع الجزء الآخر داخل جنبات النوافذ أو في زوايا الغرف، ونظرا لكثرة أعداد الكتب والمخطوطات التي استقبلتها مكتبة السليمانية لم يتم إحصاء أي منها، ولا فهرستها وترقيمها بشكل علمي يتناسب ومحتوى كل كتاب أو مخطوطة، فتذكر الملفات أن تسليم الكتب كان بالعدد فقط، الأمر الذي أدى إلى تلف وضياع، بل وسرقة الكثير منها.

عودة الاهتمام بالمكتبة

إلا أنه بدءا من 1922 تنبهت الجهات الحكومية المشرفة على المكتبة إلى تلك الثروة المعرضة للتلف والضياع نتيجة الإهمال وسوء التخزين، فبدأت في عمل دورات تدريبية للعاملين في المكتبة بهدف تطوير معلوماتهم المهنية لتشكيل كوادر معاصرة يمكنها العناية بالكتب والمحافظة عليها، وتم تعيينهم ضمن الكادر الرسمي للدولة، ومنذ تلك الفترة بدأت مرحلة العناية بالكتب وتهويتها وتأمين وسط مناسب للمحافظة عليها.

وفي العام 1950 تم تأسيس وترميم غرفتي الميكروفيلم والطبع، وتغيير جزء من أرضيات المكتبة الخشبية بأخرى إسمنتية، كما تم ترميم مكتبة الأطفال، وشراء بعض الأثاث لصالات القراءة في المكتبة العامة ومكتبة الأطفال.

وفي العام 1962م أنشئ قسم التجليد وترميم المخطوطات للحفاظ عليها من الأمراض والحشرات

ومنذ سنوات قليلة تم تأسيس قسم خاص بأجهزة الحاسب الآلي من أجل تصنيف وفهرسة مجموعات المكتبة بما يسهل على الباحثين عمليات البحث عن المخطوطات، وتمشيا مع التطور العلمي والتكنولوجي، يقوم هذا القسم بنسخ المخطوطات التي يريدها الباحثون ليكون لديهم القدرة على تصفحها وقتما يريدون.

غياب الاهتمام العربي

وعلى الرغم من الأهمية العلمية والتاريخية لمكتبة السليمانية خاصة فيما يتعلق بالتراث العربي والإسلامي، واحتوائها على نفائس الكتب والمخطوطات والحجج الوقفية، فإنها لاتزال غائبة عن العقلية التراثية لعالمنا العربي ومجالسه العلمية ومؤسساته التراثية، فمن النادر أن نجد من يهتم بما تحويه من كنوز مخطوطة باللغة العربية، وبما يمكن أن تمدنا به من معلومات موثقة عن الكثير من الأحداث التاريخية التي لاتزال محل خلاف، ولا تجد من يكشف حقيقتها أو يحسمها لنا بأدلة موثقة.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه