ماذا يجري للتعليم في مصر؟!

من المؤسف والمقلق أن نستمع ونقرأ التالي في وسائل الإعلام على لسان صفوة العقل الطلابي في مصر.

آلاء عثمان الأولى على الثانوية العامة شعبة العلمي علوم تقول: ” لم أذهب للمدرسة، وكنت أذاكر 6 ساعات يوميا “.

محمد لمعي الأول علمي رياضة: “لم أذهب للمدرسة كثيرا، وكنت أتلقى دروسا خصوصية في المواد الأساسية”.

محمد مبروك أول مكرر علمي علوم: “كنت أهتم بالدروس الخصوصية في كل المواد، ولم أذهب للمدرسة إطلاقا”.

يارا عفيفي الأولى مُكرر على شعبة العلمي علوم: “لم أذهب للمدرسة، وكنت أذاكر بالمنزل، والدروس الخصوصية كانت تكلفني 3 آلاف جنيه شهريا”.

الاستغراب

هؤلاء أربعة من أوائل الثانوية العامة 2017 تحدثت معهم إحدى الفضائيات، هناك غيرهم من الأوائل استضافتهم فضائيات أخرى كرروا نفس الكلام، شريف عامر مقدم  برنامج “يحدث في مصر” بدت عليه علامات استغراب عند عرضه للمؤشرات العامة لنتائج الثانوية عشية إعلانها وهو يقول إن الأوائل لم يكونوا يذهبون للمدرسة، لفت انتباهي أمر الأوائل الذين لا يهتمون بالمدرسة باعتبارها بيت التعليم الأصيل لسبب شخصي سيأتي ذكره، وهو ما جعلني أبحث لاستوثق من كون أن المدارس الخالية من طلابها تكاد تكون ظاهرة جديدة تتزايد عاما بعد الآخر مما يستدعي دق ناقوس الخطر لتنبيه سلطات التعليم في مصر إذا لم تكن تعلم.

وجدت فعلا أن حديث الطلاب لا يخرج في معظمه عن أنهم كانوا متفرغين في منازلهم للتعليم عبر الدروس الخصوصية في مجموعات مصغرة، أو بالانتظام في مراكز تعليمية خاصة، وأن المدرسة لم يكن لها وجود كبير في حياتهم خلال الدراسة، وإذا كان هذا هو حال الشريحة الأولى في التفوق المدركة لأهمية العلم والتعليم والساعية للتميز، فما بالنا بالشرائح الأخرى الأقل مستوى، ثم ماذا يكون حال الشرائح ذات المستوى الضعيف في التحصيل؟.

ملازمة المنزل

أما السبب الشخصي الذي جعلني مهتما بالظاهرة أنه لم يكن قد مر شهر على بدء العام الدراسي الذي انتهى قبل أسابيع، وكنت اطمئن على تنظيم الوقت لاثنين من أولادي بعد عودتهما من المدرسة لإنجاز واجباتهما حتى صعقت عندما علمت أنهما لا يذهبان إليها، “الصف الثالث الإعدادي”، و”الصف الأول الثانوي”، وعبثا حاولت والدتهما إقناعي بأن زملاءهم لا يذهبون أيضا، وهما اضطرا لملازمة المنزل، ومتابعة دروسهم مع معلميهم خارج بيئة المدرسة، وهذا أجدى لهم بدل تضييع الوقت، لكني رفضت أي تبرير، وصممت على ضرورة عودتهما من اليوم التالي، وقد حصل ذلك، لكن الأصغر فيهما تصرف بدهاء حيث قام بتصوير فيديو عبر هاتفه المحمول من داخل الفصل، وأرسله لي، وشاهدت فيه عددا محدودا من الطلاب يغلقون الباب على أنفسهم، ويقومون باللعب والقفز فوق المقاعد، والاشتباك مع بعضهم بعضا، وممارسة مختلف أنواع الشقاوة في مدرسة المشاغبين، رضخت لذلك الواقع العبثي والعشوائي والانحداري المؤلم لأهم قيمة في حياة أي دولة وأمة وهي المدرسة رمز العلم والتعليم وإعداد أجيال المستقبل.

أنا أنتمي إلى الجيل الذي كان يستعد للمدرسة قبل بدء الموسم، ويتشوق لليوم الأول، وطابور الصباح، والتوزيع على الفصول، والعدو سريعا للفوز بمقاعد المقدمة في مواجهة “السبورة”، وكان ذلك يمنح من يفوز بواحد منها إحساسا بأنه سيكون متفوقا، أنا من الجيل الذي كان يعتمد على شرح المعلمين للمناهج خلال الحصص، ولا يعرف الدروس الخصوصية إلا فيما ندر، وعلى أيامنا لم تكن هذه الدروس هي الأساس في التعليم، ولم تكن بديلا عن المدرسة والمعلم والشرح في الحصة كما هو اليوم، أنتمي إلى جيل كان من يأخذ درسا خارج المدرسة يُعد ذلك عيبا ويُوصف بأنه طالب بليد، كان من يتلقون تلك الدروس عددهم محدودا، ولم يكونوا يفصحون عن ذلك كأن لديهم شعورا بارتكاب ما يخجل منه الإنسان، أنتمي إلى جيل كان كتاب المدرسة هو الأساس، وكان الكتاب الخارجي لم ينتشر بعد كما هو اليوم ليلغي كتاب الوزارة، هناك الكثير الذي يمكن أن يُقال عن المدارس الجيدة، ومستوى التعليم المعقول، والمعلم المخلص، حتى حدث الانحطاط فلم تعد المدرسة مدرسة، ولم يعد التعليم تعليما، ولم يعد المعلم كما كان، راتبه الضعيف ومطالب الحياة الكثيرة تحوله إلى تاجر في مادته.

مبنى بلا جاذبية

المدرسة صارت مبنى أجوف بلا جوهر ولا جاذبية ولا أنشطة رياضية أو فنية أو تثقيفية مكتبية تغري على البقاء فيها، وكثافة الفصول تساهم في دفع الطلاب للهرب منها حيث يفضلون البقاء في بيوتهم يستقبلون المدرسين، أو يذهبون إلى المراكز، للتعلم عبر الكتاب الخارجي والدروس الخصوصية، ومن هنا تصير المدرسة عامل طرد وليس جذب، وتتحول إلى مجرد واجهة فقط.

سألت مدرسا صديقا عن هذه النكبة فعدد لي أسبابا تُدمي القلب منها أنه بعد عشرين عاما في التعليم يبلغ راتبه 2000 جنيه فقط، وبمرارة أشار إلى طلابه الذين تخرجوا وعمل بعضهم في وظائف مرموقة لا يصل إليها أي متخرج بالطبع، وأول راتب لهم يعادل خمسة أضعاف راتبه، وقال أيضا، إنه يتمنى الشرح وإخراج كل ما لديه، لكن ماذا يفعل أمام فصل قوامه 80 طالبا يحضرون أسابيع قليلة ثم يتناقصون تدريجيا حتى لا يجد منهم بعد ذلك إلا القليل ممن يرغبون فقط في استهلاك الوقت فرارا من رقابة الأسرة ولو لساعات بحجة التواجد في المدرسة.

الدروس الخصوصية باتت بديلا عن المدرسة وهي الأساس في التعليم اليوم، وها هم أوائل الثانوية تفوقوا بالدروس وعدم الانتظام في المدرسة، قديما كان الأوائل يتباهون بأنهم يعتمدون على شرح معلميهم في الفصول، وكتب وزارة التعليم، ولا يعرفون آفة الدروس أو الغياب عن بيت التعليم.

ولمن لا يعرف فإنه مع مطلع شهر أغسطس من كل عام وقبل بدء الدراسة بشهر ونصف الشهر تقريبا تكون اتفاقات الدروس الخصوصية قد تمت مع المعلمين، ويكون العمل قد انتظم فعليا فيها، وعندما تبدأ الدراسة يكون الطالب قد قطع شوطا في المناهج، ولذلك يرى أن الذهاب للمدرسة فيه إهدار لوقته، وهذه واحدة من الحقائق المرة للتعليم، ولا تعني الأرقام الكبيرة في نتائج الشهادة الثانوية العامة أن أصحابها سيكونون مبدعين ومبتكرين ومخترعين مستقبلا، وأنهم سيكونون مشروعات علمية وفكرية نابغة، وسيكونون من الحائزين على الجوائز العالمية المرموقة يوما وعلى رأسها نوبل، أبدا، لأنه تعليم يعتمد على الحفظ والتلقين، ثم يفرغ الطالب ما يحفظه على ورقة الإجابة، لا يوجد مشروع تعليم يقوم على العقل والفهم والاستيعاب والتفكير والبحث وتحفيز مواهب وقدرات وخيال الطالب ليكون منذ صغره صاحب رؤية يسعى لتحقيقها مع صعوده تعليميا. 

لا علاج

التعليم يعيش أزمة معقدة، وهي ممتدة ولا علاج جادا لها حتى اليوم رغم كثافة الحديث عنها رسميا وشعبيا ورغم إسهاب الخبراء والمتخصصين في توصيف وتحليل مختلف جوانبها، لا شيء يتم علاجه في بنية التعليم، ولا شيء عمليا يتم إنجازه، إنما الأمر كله عبارة عن مكلمة، وتجارب عشوائية بلا منهج أو خطة واضحة ثابتة لا تتغير بتغير المسؤول عنها.

 لقد صارت المدرسة خاوية من عنصرها الأساسي وهو الطالب، و من المناهج ومدى مواكبتها للتطور المذهل الذي يشهده العالم المتقدم، وكذلك المستوى العلمي للمدرس ومدى لياقته التربوية والنفسية ودخله ووضعه الاجتماعي والاقتصادي، فضلا عن الرؤية الكلية للتعليم وما هو المطلوب أن يحققه في بناء التلميذ فالطالب فالمتخرج المؤهل للبحث والتطوير والبناء والتحديث، تلك قواعد أساسية في منظومة التعليم لا نجد الكثير منها متحققا، إنما المسألة عبارة عن كيان تعليمي ضخم من مدارس وجامعات حكومية وخاصة ينتقل من خلالها كل عام أعداد هائلة من صف إلى صف، ويتخرج منها كل عام أعداد ضخمة بحوزتهم شهادات لمجرد التوظيف بها، أو الوجاهة الاجتماعية للارتباط، ولذلك يكون طبيعيا خلو الجامعات المصرية من التواجد ضمن أفضل 500 جامعة في العالم.

التعليم أولوية قصوى في سلم نهضة أي أمة، لا تقدم إلا بالتعليم والعلم والعقل والفكر، وعندما يكون التعليم بلا رؤية وبلا مشروع واضح المعالم يتطلع للمستقبل، وعندما تكون موازنته أقل كثيرا من موازنة الأمن مثلا رغم أهميته للمجتمع، فإن فكرة النهضة تظل بعيدة.

عندما اعتبرت اليابان أن التعليم هو كلمة السر في وقوفها على قدميها بعد دمارها في الحرب العالمية الثانية، وكذلك فعلت ألمانيا، فإن البلدين وقفا ونهضا من تحت الركام وصارا قوتين عالميتين رائدتين.

 

 

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه