ماذا وراء المقاول المتمرد؟!

 

يوم الاثنين 2 سبتمبر الجاري استيقظت مصر على مفاجأة بث أول فيديو لشخص يُدعى محمد علي.

 عرفنا من حديثه العفوي الأقرب إلى لغة الشارع بسبب نشأته في حي أقرب إلى الشعبي(العجوزة)، وبيئة العمل في الميدان خارج المكاتب المغلقة، وليس لغة السياسي، أو المثقف النخبوي المتجمد، أنه مقاول، وصاحب شركة اسمها (أملاك)، وفهمنا أنه فنان، لكنه محدود الانتشار.

ومنذ هذا اليوم والفيديوهات التي يصورها بكاميرا هاتف محمول من مدينة برشلونة في إسبانيا، التي فر إليها وعائلته منذ عام، تتوالى دون توقف، وصنعت له جمهوراً يتابعها باهتمام، وجمهوراً آخر يتولى التحليل والتعليق عليها، وهذه حالة جديدة أن شخصاً معنياً فقط بالمال والأعمال ومن خارج أطياف المعارضة التقليدية، أو أشكالها المستحدثة يُحدث كل هذا الجدل بما يدّعيه.

وهناك نوع آخر من الجمهور العام الذي لا يشعر بالرضا عن الأوضاع القائمة، ويعيش مرارة عدم تحقق شعارات الحياة المريحة وتوفر الفرص وتبدد الأحلام، يتفاعل مع رسائل الفيديوهات دون ارتباطه بمعارضة خارجية معروفة، أو معارضة داخلية مكبوتة، وهو يتشكل من شرائح متنوعة ثقافياً وتعليمياً واجتماعياً( ما اُصطلح على تسميته بحزب الكنبة)، وقد يصمت الفرد داخل هذه الكتلة الواسعة، لكن هذا لا يعني قبولاً بالواقع، إنما يأساً، أو تفادياً لتكلفة النطق والكلام.

الترويج والتنفيس

في هذا الموضوع الذي ظهر للمصريين على غير موعد ربما الأمر لا يخلو في وجه له من الترويج والتسويق للمقاول وفيديوهاته، وهذا واضح من التناول المكثف لهما في وسائل إعلامية بعينها تتابعه لحظة بلحظة كما لو كان صعوداً للقمر لأول مرة، والوسائط الإعلامية التقليدية والجديدة التي تضعه في صدارة اهتمامها لها تأثيرها وجمهورها العريض، وهو يمثل مادة جاذبة لها تستثمرها في صراعها مع النظام ومحاولة إحراز بعض النقاط عليه.

والانتشار الذي يحققه يُفسر في أحد جوانبه أنه يقوم بالتنفيس عن غضب كامن لدى محبطين وقلقين وخائفين ومخذولين، والطيف المتنوع الذي يتجاوب معه قد لا يجمعه بـ محمد علي قضية واحدة مشتركة، أو تحركهم نفس الدوافع، إنما يكفي هؤلاء أن يظهر شخصاً مثله دون أن تكون له خلفيات في العمل العام ليمارس نقداً للسلطة نيابة عنهم فيريحهم ويخفف عنهم حالة الاحتقان حتى لو لم يكن مؤهلاً أو جديراً للقيام بالدور التنويري والتوجيهي والإصلاحي والقيادي.

وتظهر هنا قيمة هامش الحرية أيام مبارك، فقد كان مساحة للكلام مع توفر الأمان لمن يعلن رأيه، وكان وسيلة لامتصاص التوتر والغضب وإراحة النفس والتخفيف عنها، وغياب هذا الهامش اليوم في إعلام خاضع للتوجيهات والرقابة يمنح المقاول وأي أصوات مماثلة والإعلام الخارجي ترويجاً وازدهاراً ونسب متابعة مرتفعة، وهنا لا يجب أن يشتكي أحد من اختلاط الشائعات بالحقائق.

المصداقية .. وغياب السلطة

التسجيلات الأولى كانت مثيرة، لأنها تتعلق بأعمال شركته مع المؤسسة العسكرية، وما جاء فيها من بناء فنادق وقصور وفلل واستراحات رئاسية دون الحاجة إليها، وبتكلفة مالية كبيرة، بينما هناك شكوى من أعلى هرم السلطة بأننا فقراء جداً ولا نمتلك المال الكافي لتحقيق الغايات المنشودة كلها، إضافة إلى دعوة المواطنين دوماً للتحمل من أجل بناء البلد.

 هذه مجمل رسالة المقاول، كما وردت على لسانه، ودقتها ومصداقيتها من عدمه هي مسؤوليته وحده، وليس بالضرورة أن تكون ذات مصداقية كاملة، وكان الوقت متاحاً للسلطة لتنسفها من جذورها في الساعات الأولى لانتشارها واشتعالها، لكنها لم تفعل، غالباً قللت من شأنها، أو أربكتها المفاجاة والصدمة في سياق عدم التحسب لحدوث مثل هذا الفعل، وهذا فتح الباب أمام تكهنات بأن ما يقوله المقاول يقترب من الصحة.

التمرد على المنظومة

عدم التفاعل مع رجل الأعمال المتمرد على المنظومة الذي كان جزءاً منها، وتجاهل الرد عليه بشكل رسمي ومباشر ومقنع، وتفنيد كل ما قاله، حرفاً حرفاً، وكلمة كلمة، ورقماً رقماً، ومنشأة منشأة، أمام الرأي العام يمنح مصداقية لما ورد في الفيديوهات، ويكرسها كأنها حقيقة ولو على غير الحقيقة كاملة، والصمت هنا لا يجوز، لأنها ليست قضية سياسية، بين المعارضة والنظام، تحتمل وجهات نظر مختلفة، ومواقف متاينة، ولا يمتلك أحد رأياً حاسماً فيها.

والمتكلم ليس واحداً من الإخوان أو المتعاطفين معهم تم التشكيك والإهدار المسبق لكل ما يقوله حتى لو كان من البديهيات والقطعيات الكونية، وتحوم دوماً على رأسه الشبهات والاتهامات الجاهزة.

المتحدث واحد من رجال المؤسسة الموثوق فيهم، والمقرب منهم كأنه الظل لهم، وواحد من كبار المقاولين في المشروعات التي نراها حينما ينتهي العمل فيها وتصير جميلة المنظر على الشاشات عند الافتتاح، وأمام المارة إذا كان مُتاحاً لهم مشاهدتها، أو لانراها ولا نعرف بها إلا عندما يتحدث عنها من قام بإنشائها، وهو أيضاً واحد ممن تسلموا مرات شيكات بالملايين مقابل أعمالهم، هو مواطن غير عادي حتى لو بدا من طريقة حديثه أنه أقل من العادي.  

وهنا كان مهماً مسارعة منظومة الحكم للانفتاح على ما قيل، وليس الانكماش، لتبيان الحقائق للشعب حتى لو كان ما قاله صحيحاً كله أو بعضه، ومعالجة ما قد يكون حصل من أخطاء أو تجاوزات أو مجاملات أو نفاق من البطانة للحاكم، وليكن ذلك ناقوساً جاء في وقته للتنبيه على وجود خلل في نمط الإدارة في المشروعات وأولوياتها وجدواها بالنسبة للغالبية العظمى للمواطنين لإعادة هيكلة الرؤية الكلية ليس لحركة المشروعات وأجندتها وأهدافها ومدى اتساع أو ضيق فوائدها فقط، إنما لحركة وعمل السياسة، وصنع السياسات العامة، وطبيعة وفلسفة الحكم..

فليس أمراً بسيطاً أن يخرج شخص من الموثوق فيهم من مؤسسة الحكم ليوجه سيلاً من الانتقادات الخطيرة لها، ويساهم في خدمة رسالته – سواء كانت بريئة، أو مخططة وذات أهداف بعيدة – الوضع الاقتصادي والاجتماعي الصعب على فئات تمثل غالبية المجتمع، بجانب الوضع السياسي الذي حول نخب العقل والفكر والنشاط السياسي المخلص الراغب في نهضة بلاده على قواعد صحيحة من الشفافية والعدالة والحرية والديمقراطية، إلى طبقة منبوذة، مفروض عليه العزل، والتعتيم، وتحاصرها الشكوك، والاتهامات، والمطاردات، والاستهدافات.

لغز كبير

عملية التمرد الخاطفة يصعب أن تكون فردية صرفة، أو ناتجة عن غضب بسبب تعرضه للتهديد بمحاكمة عسكرية، أو حرمانه من مستحقات مالية لشركته بمئات ملايين الجنيهات، أو عدم رضائه عن سياسات النظام، وأولويات المشروعات، والأجحاف بمصالح الفقراء، وتفشي المجاملات، وتناقض التوجهات مع الشعارات، أو يقظة الضمير، فهو بتركيبته ليس مهيأً للقيام بمثل هذه الأدوار، كما لا يمكن لفرد واحد أن يواجه سلطة تبسط سيطرتها، ولا تأبه بأحد حتى لو كان من أركانها، ما لم يكن هذا الشخص مطمئناً إلى حائط من الحماية والدعم، ويتحرك لأهداف غامضة، ولديه لغز كبير، حتى لو كرر مراراً أنه مهدد بالتصفية.

إغواء حب الظهور

الفيديوهات الأخيرة لم يعد فيها ما يثير الاهتمام، والمشكلة في إغواء حب الظهور أمام الرأي العام، والانتشار الواسع للتسجيلات، وتداولها على مواقع التواصل، وبثها على قنوات تلفزيوينة خارجية، وتجاوب نشطاء وفئات شعبية معها باعتبارها مصدر تنفيس كما قلنا، أو لأنه كان قريباً من ورشة عمل النظام، وامتلك الجرأة ليهاجم، ويقدم معلومات وأرقام تتعلق بنمط إنفاق المال العام، ويصوب على شخصيات قيادية كبرى..

والإفراط في التسجيل بعد أن راكم شعبية في غضون أيام قلائل، لم يحقق نذراً يسيراً منها سواء خلال عمله بالتمثيل، أو في حياة الرفاهية التي يعيشها من مكاسب المقاولات مع الجيش، سيدخله في اشتباكات جانبية مع من يتناوله بالتعليق السلبي أو استفزازه، كما حدث في رده على وائل غنيم الذي ظهر في فيديو بشكل غير سوي.

 وجاذبية الكاميرا والأضواء ستجعل شرائطه تتناول تدريجياً موضوعات عامة، وأحداث الشأن الجاري، كما لو كان ناشطاً سياسياً، أو محللاً للأحداث، بينما المتابعون له ينتظرون أن يقدم ما لديه من حصيلة سنوات التعامل في إنشاءات وأعمال مقاولات، وخاصة ما يتعلق بالسنوات الست الأخيرة حيث تقوم المؤسسة بتنفيذ مشروعات البنية الأساسية والطرق والجسور والمنشآت والتي بلغت 2300 مشروعاً يعمل فيها نحو 5 ملايين مصري كما قال المتحدث الرسمي باسم المؤسسة العسكرية مؤخراً، اللهم إلا إذا كانت الوقائع هي ما ذكره فقط في الفيديو الأول والثاني، ورغم هذا يظل ما قاله كلاماً مرسلاً إلى حين التثّبت القاطع منه.

ما يفعله محمد علي منذ 13 يوماً مغامرة ومقامرة ستتضح آفاقها وتمدداتها وأبعادها مع مرور الوقت والتطورات فيها، وربما المؤتمر الثامن للشباب الذي عُقد اليوم يُستخدم كمنصة غير مباشرة لتناول الموضوع والحديث فيه والرد عليه وتقديم معلومات ورواية رسمية مضادة لرواية المقاول.

(هذا المقال تم كتابته قبل ساعات من انعقاد المؤتمر).

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه