ماذا قالت الغيمة، ماذا قالت اللوزات؟

أنوار سرحان*

 

رغم تحدّيات القانون الإسرائيليّ ، ما زال فلسطينيو 48 والمتضامنون معهم في أجواء إحياء ذكرى النكبة، بين مهرجانات “يوم استقلالهم يوم نكبتنا” حتى “العودة أوّلا”، وما بينهما يحيون ذكرى سقوط البلدات كلٌّ بطريقته،  وهل تصمت ذبيحةٌ عن التلوّي؟ وهل يبرأ جرحٌ مفتوحٌ وندبةٌ تُنكأ كلّ يومٍ ؟ فالمهجّر يحيا في بلاده، وربّما قبالة أرضه المصادَرة، وقد يمرّ كلّ صباحٍ من جانب قريته فيشمّ رائحة جدّه منبعثةً من بيته الذي يُمنع من العيش فيه، ليكون عليه متابعة نكباتٍ تتناسل في أشكالٍ شتى.

 

صورة -1

 شهدت مسيرة العودة إلى قرية الحدثة المهجّرة، انهمارَ أمطارٍ غزيرة لحظة توافد المشاركين ، وتداعَت ردود الفعل حول التنظيم، إما في نقدٍ ينسف جهودًا هائلة، وإما في تأييد متطرّف يعمي عينه عن النقد الحقيقي. أمّا المنظمون والمسؤولون فقد بدَوا أكثر موضوعيةً في التقييم الذاتيّ واستخلاص العبَر.

إذا كنتَ مسكونًا بكون الله وأسراره مؤمنًا بالرّوح وتفاصيلها، فلن تأبه لهذا النقاش طويلا. ستدّعي معي مثلاً أنّ الشحنات المتسللة بين ذرّات البخار في غيمةٍ ما، تخبّئ ما علق بها من روائح الأماكن أو الأشخاص، من صور ٍتشبّثت بها وهي تعبر طريقها نحو الارتقاء، من ذكرياتٍ حمّلها لها إبريق ماءٍ أخلص ليد صاحبته إذ دفّأته من برد الشتاء، فظلّ يردّد اسمها تعويذةً للقطرات قبل أن ترحل نحو سمائها، من شوق حبيب كان ينتظر بلهفةٍ أن يجفّ قميصه على حبل الغسيل كي يسرع للقاء محبوبته، من ضحكة طفل تلذّذ بالتزحلق على الأرضيّة إذ شطفتها والدته. تظلّ القطرات تتناقل أسرارَها جيلاً بعد جيل وتحكيها الغيمة للحفيدات كي تعرف كلٌّ منهن أصل الحكاية.

لمّا كان أن هزّت روائح وفود العائدين غيماتٍ حبلى بذكريات محبوسة منذ 67 عامًا، تداعت لها القطرات بالانهمار مكرّرةً السيناريو ليعيش الأحفاد تجربة أجدادهم يوم النكبة إذ ذاقوا أوحال التهجير..

صحيح أنّ كثيرين اضطروا للعودة وعدم الاستمرار على الشارع الترابيّ الذي بدا أيضا كمن عرف خطوات مَن فوقه وميّزها. ولكن الآلاف استمرّوا متماهين بأرواح أجدادهم التي عبقت مع المطر، إلى أن صفَت السماء فردّدوا أهازيجهم الفلسطينيّة بل وأغانيَ العرس أيضًا في رسالة للحياة تقول إنّ إخلاصَهم للذاكرة متشبّثٌ أيضًا بالمستقبل.

 

صورة-2

في الطريق الترابيّ الطويل تدلّت دانيةً ثمار اللوز الشهيّة مغريةً للمارّين، على أشجارٍ فتيّةٍ،  أضافت للمسار إثارةً أخرى تخفّف من طول الطريق والأوحال.

بامتعاضٍ قالت صغيرةٌ مشدوهة:  ” بيسرقوا لوز”!!

–  ” ما هم سرقوا الأرض كلها” أجابت الأم وهي تبرّر حقّ القاطفين.

 بين الأبيض والأسوَد في سؤال السرقة، مَن يسرق مَن؟ دعنا نفكّر فيما تقول الشجرة. هل تخلص لغارسٍ أطلق فيها الحياة بعد أن قتل جدّه حياةَ أهلها وهجّرهم؟ أم تصغي لصوت الأرض التي تذكر أصحابَها؟ هل تتفق الشجرات المخضرّة ألا تخون من غرسها ورعاها بعنايةٍ، أم أنها قد امتصّت من الأرض روائحَ عرق فلاحٍ عجوز كان يرويها بقلبه قبل نكبته؟!

صورة-3

 كنتُ قد اتفقتُ مع زميلي أن نغطّيَ الحدث أثيريًّا لإذاعة بيسان الوليدة حديثًا، فحرصنا على إيقاف السيارات قريبًا من مكان المهرجان كيلا نضطرّ لحمل الأجهزة مسافاتٍ طويلة. في خروجي بالطريق الترابي أشارت لي سيدتان فأفسحت لهما مكانًا لأقلّهما إلى سيارتهما عند آخر الشارع. يهوديتان مسنّتان جاءتا من تل أبيب تضامنًا مع المهجّرين الذين يحيون ذكرى النكبة.

كما رفاقهم في مجموعة صغيرةٍ لكنّها بارزة في كل مسيرة، يرفض هؤلاء اليهود الاحتفال باستقلال إسرائيل فيشاركون في مسيرات العودة، يوزّعون المنشورات المؤكّدة على حق العودة للاجئين والمهجّرين الفلسطينيين. قالت واحدةٌ إنها وصلت من تل أبيب رفقة بروفيسور يهودا شنهاف الذي ألقى خطابًا مؤكّدًا أنه كيهوديّ يرى من غير الممكن الفصل بين حقوق اليهود وحقوق الفلسطينيين، فالحرية لا تٌبنى على أنقاض قمع الآخرين.

قد يواجه هؤلاء النبذَ من أهلٍ أو أقارب لأجل أفكارهم المنتصرة لحقّ الإنسان الفلسطينيّ، مثلما يواجهها الصحفيّ جدعون ليفي الذي يصرخ بوجع الفلسطينيّ أكثر مما يفعل كثيرون منّا، وينتقد بحدّةٍ حكوماتِ بلاده، كما نحلم أن نقرأ كاتبًا في بلدٍ عربيّ يفعل.

تحدثت السيدة طويلاً عن قلقها من العنصرية المتزايدة، ومن كَون الأجيال الجديدة لا تعتنق الأفكار التقدّمية، بينما فاجأتني الأخرى بأنّ من المطمئن لمثلها أنّ مئات الإسرائيليين ممّن تعرفهم يقاطعون بضائع المستوطنات سرًّا كيلا يتعرّضوا للمحاكمة ،إذ يؤمنون بأن الاستيطان سرّ إعاقة مساعي السلام. 

صورة-4

حين سألتني من أين جئتُ، قلت إنني  من قرية نحف الجليلية وأعيش في مدينة كرميئيل. فحدّثتني كيف جاءت طفلةً قبل عقودٍ، وشاركَت مع والدها في مظاهرات ضدّ إنشاء هذه المدينة على الأراضي المصادرة من قريتي وجاراتها. راحت تحكي كيف ربّاها والدها على اعتناق حقّ الحياة والحرية للجميع، وكيف عوّدها على المشاركة في المظاهرات تضامنًا مع المواطنين العرب ضدّ مصادرة الأراضي.  لم أحدّثها طبعًا عمّا ذقتُه أنا من ويلات في قريتي جعلت المدينةَ العبرية ملاذًا من موت متربّص! ولا حدّثتها أنّ من سرق بيتي لم يكن إسرائيليًّا، وأنّ مَن نهب أرضي وسعى لقتلي كان أقرب المقرّبين إليّ، ولم يكن من اليهود لا مستوطنًا ولا حكومة، فكّرت بقريتي التي لم يهجَّر أهلها، ولكنّها ضاقت بأبنائها، وتصرّ أن تهاجر منها العقول والطاقات بعد أن تحاصرها وتخنقها .

 لذتُ بالصمت وبقول النفري: “كلما اتسعت الرؤى ضاقت العبارة “، فالمقام لا يتّسع لسرد فظائعنا أمام الآخر. كيف ستصعق متضامنًا معك بفضح حقائق مخجلة، منها مثلاً إنّك إن نجوتَ من قتل عدوّك قتَلك أبناء جلدتك، باسم الربّ أو الأعراف أو المطامع؟

 صورة -5

ابتلعتُ أوجاعي التي عادت وانهمرَت كغيمات الحدثة، إذ شاهدتُ صورةً لعجوزٍ يهودية مقعدة تحمل لافتة ضدّ هدم البيوت العربية في  “مظاهرة البيت” في تل أبيب، وشريطًا لشابّ عربيّ يُهدَّد بيته بالهدم، وعائلته بالتشرّد. كنت أفكر في أصدقائي السوريين الذين فقدوا بيوتهم وتشرّدوا لاجئين، ولم تغِب عني صورة صديقي الليبيّ الذي يؤثر الانحباس في غرفةٍ ضيّقةٍ على الخروج ورؤية ركام الأماكن التي حملت ذكرياته، بعد أن فجّرتها الحرب الأهلية. فيما سمعتُ في روحي صوتَ الكاتب المصريّ سليم عزوز الذي خانه الأمان في بلده لأنّه صدَق نفسه وانتصر لشرعية خصومه، ولم يهتف لحريّةٍ ترزح تحت حذاء العسكريّ وتنبعث منها روائح جثث الخصوم!

 

حسنًا:

دعك ممّا يوهموننا به من حروبٍ سياسية دينيّةٍ أو طائفية، وردّد معي أنّ المعركة الحقيقية الوحيدة في هذا الكون هي بين الإنسانية و اللاَّإنسانيَّة ، فطوبى لمن انتصر للإنسان فيه، وحطّم كلّ انتماءٍ آخر.

________________

*كاتبة فلسطينية من الخليل

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه