ماذا فعل الإسلاميون بجماهيرهم الكثيرة؟!

 

 

انتقاد الأحزاب الإسلامية رياضة وطنية ونشارك فيها ولكن يشفع لنا أننا ننتقد الجميع ولا غاية إلا فهم أسباب تعثر الربيع العربي وفهم الردة التي أصابته فلم يلب مطالب الذين جاشت عواطفهم بالتغيير. نجح الإسلاميون منذ ما قبل الربيع العربي في بناء أحزاب جماهيرية لم تتفكك رغم المجازر التي تعرضت لها في كل قطر عربي. وهو أمر جدير بالدرس الأكاديمي المعمق لكن ماذا فعل الإسلاميون بجماهيرهم الكثيرة؟ هذا موضوع النقاش خارج تبريرات المظلومية. التي يستطيب لكثير من الإسلاميين الاختفاء خلفها لتبرير الفشل الحزبي في قيادة التغيير وتحمل مسؤوليات الفكر.

استثارة العاطفة الدينية

كانت العاطفة الدينية وسيلة من وسائل البناء الحزبي في التيارات الإسلامية. ضمن خلطة هووية عجيبة تجمع تحرير الأوطان إلى تجديد الأديان لتحرير الإنسان ويوجد في هذا تراث غني. بدأ مع ظهور جماعة الإخوان المسلمين واستمر في كل التنظيمات مع بعض الخصوصية المتعلقة بالمسافة بين الإصلاح الديني الصرف (الشرق العربي) والإصلاح الاجتماعي (المغرب العربي).

يقول خصوم التيارات الإسلامية أن هذا استغلال بشع للدين في السياسة فالدين تراث مشترك بين مكونات المجتمع. وعلى هذا الأساس حاربت الأنظمة العربية الإسلاميين باعتبارهم أدعياء يتصرفون في ما لا يملكون. لكن كل الخصوم في السلطة وخارجها لا يرغبون ولم ينتبهوا إلى أن هناك طلبا عاطفيا وسياسيا على الخطاب الديني ضمن مشروع وجودي تحرري (أي التحرر بالدين وتحرير الدين في ذات الوقت). وأن الأحزاب الإسلامية تلبي رغبة سابقة عليها ولم تخلقها.

لقد أسقطت الأنظمة التي حكمت هذه المسألة من عملها الفكري والثقافي بل حاولت البناء ضدها أو دونها ضمن منظور تحديث علماني لا ديني مع شحنات خطاب ديني غير جدية كنا نسمعها على سبيل المثال في خطابات بورقيبة وعبد الناصر والحسن الثاني أمير المؤمنين. وإلى الأنظمة أنظمة التيارات اليسارية والقومية وكثير من الشخصيات الفكرية التي يمكن نعتها بالقيادات الفكرية ذات الصولة. لكن السؤال/المطلب بقي يبحث عمن يحمله وكان الإسلاميون حملته وذلك جلب لهم كل هذه الجماهير المتعطشة إلى إجابة هوية لا ترى الدين مناقضا للتقدم. لكن كيف كانت إجابة الإسلاميين فعليا عن السؤال. أي هل لبوا فعلا شغف الجماهير التي اتبعتهم؟

الورطة الأخلاقية في الحديث عن أدوار الإسلاميين.

الحرج الأخلاقي هو أن تنتقد تجربة الإخوان في إدارة بلدهم وشباب الحزب معلق على أعواد المشانق. فتلك المشانق استمرار لرابعة ومحرقة رابعة من عمل الذين رفضوا أن يتم الإخوان تجربتهم في الحكم ولنحكم لها أو عليها فيكون كل تقييم موضوعيا لا يتحرج من اتهام القتيل بقتل نفسه. لكن المحذّر منه هو أن لا تنتقد التجربة بذريعة العذابات المسلطة على الحزب.

في تجربتي الحكم المصرية والتونسية (الإخوان بمصر وحزب النهضة في تونس) وهما نتيجة فوز أحزاب إسلامية في الربيع العربي عبر الصندوق. فشل الحزبان في تحقيق مطالب الثورة. حجة الإسلاميين هي الإعاقات التي تعرضوا لها في التجربتين حيث انتهيا خارج السلطة. لكن سؤالنا هو هل كل الأمر عائد إلى إعاقات خارجية فعلا أم أن الإسلاميين يحملون جرثوم الفشل في داخلهم.

العاطفة الجياشة التي يستثيرها الخطاب الإسلامي أو يستجيب لها -إذ هي سابقة عليه- جيشت جمهورا كبيرا لكن الأحزاب الإسلامية لم تقدم لتلك الجماهير برامج حكم قابلة للقراءة والتطبيق. بل اكتُفي غالبا بالإبقاء على الجماهير مشدودة إلى العاطفة الدينية وبواسطتها فحولت الجيشان العاطفي إلى تجييش حزبي كلما اهتز أعيد إحياؤه. وكانت الأنظمة توفر الذريعة. ولولا أن القتل كان حقيقيا لقلنا إنه تقاسم أدوار على مسرح.

عندما وصلت هذه الأحزاب إلى السلطة وجدت أن ليس لها أي فكرة عن إدارة بلدانها وعن التحكم في مواردها وعن فهم ضغوطاتها الداخلية والخارجية والمناورة معها. كانت هناك شعارات كبيرة مثل كتب محمد الغزالي عن العدالة الاجتماعية في الإسلام ولكن ذلك ليس إلا مقدمات أقرب إلى الرومانسية منها إلى سبل التعامل مع آليات الاقتصاد العالمي المعولم.

عندما كان العالم يتغير من حول الإسلاميين كان هؤلاء منكبين على عبادات كثيرة وإخوانيات يرونها من جوهر مشروعهم كتزويج الشباب وتنظيم حياته الجنسية داخل الفقر وليس تطوير قدرات المجتمع ليجد الشباب حلوله الاقتصادية. فلما وجدوا أنفسهم محمولين على أشواق الجماهير إلى السلطة انخذلوا أمام عسر إدارة الدولة التي اكتشفوا حينها جهلهم بها.

وما أسرع ما جُر الإسلاميون في السلطة إلى قضايا خصومهم التي تدربوا عليها منذ زمن. كطرح قضايا المساواة الانتخابية بين الجنسين قبل قضايا المساواة أمام فرص العمل للجنسين. لقد وجد الإسلاميون أنفسهم يجادلون في قضايا الحرية الجنسية في حين أن الناس يعانون مصاعب الفقر والتهميش.

كان الإسلاميون ولا يزالون يعيشون خارج خطط الجدال الثقافي لأنهم يردون دوما بخطاب ديني لا يلزم غيرهم ورؤيتهم الدينية ليست هي كل أشواق الناس الذين انتخبوهم لذلك بدأت الشعبية الجماهيرية في التقلص رغم استمرار المظلومية.

والآن في مصر بالتحديد نقرأ نقدا لا يخلو من تشف في الإخوان فجهلهم بالسياسة هو الذي جعلهم يعطون إدارة المؤسسة العسكرية لرجل غبي. وبسبب غبائه المزمن فإن الشماتة تعود على من وضعه على رأس الجيش فالرئيس كان أغبي من مرؤوسه.

وما هذا إلا تفصيل ضمن صورة عامة تكشف أن أحزاب الإسلام السياسي لم تستعد للحكم لأنها لا تعرف كيف تفعل ذلك. فشاغلها الهووي (وبعضه سلفية دينية صدى لدعوات تطهير الدين مما أصابه من أذى الحداثة كما تصدر عن خطباء النفط) أبقاها بعيدة عن شواغل الناس المادية ورغم أن الناس قدموهم للسلطة خالطين بدورهم بين أشواق التحرر الديني وأشواق التحرر الاقتصادي إلا أن خذلانهم في أشواقهم إلى التنمية وإلى الحرية يوسع الآن الفجوة بين أحزاب الإسلام السياسي وقطاع واسع من جماهير كانت لهم بكثير من التصديق الفطري للخطاب وقد اختبرت علاقة الخطاب بالممارسة فانفضت.

أفق مراجعات عام.

ليس لدى التيارات الأيديولوجية بدائل للشعب العربي في كل قطر. وإذا كنت هنا قد تحدثت عن عجز الأحزاب الإسلامية عن الاستجابة لأشواق الشارع فإن عجزا آخر ظهر لدى كل التيارات الأيدولوجية (القومية واليسارية والليبرالية). لقد وجدت نفسها جميعها عاجزة عن إدارة دولها فأعادت الحكم إلى المنظومات التي ثار عليها الناس. وهي لا تزال عاجزة.

مثلا في الحالة التونسية يقترب الموعد الانتخابي ولكن لا نسمع من الخطاب إلا معارك تحسن المنظومة القديمة إدارتها فتجر إليها البقية وأولهم الإسلاميون.

يحتاج الربيع العربي إلى مراجعات عميقة يقوم بها كل من يريد التصدي لإدارة الشأن العام أي خدمة الناس. حري بكل النخب من كل التيارات أن تعلن نقدها الذاتي أمام الفشل لتخرج نفسها ثم تخرج الناس إن استجابوا لها وصدقوها من الكوارث الموروثة والقادمة على يد أنظمة فاشلة مثل نظام السيسي أو السبسي أو بوتفليقة.

ولقد كتبنا ولن نمل من الإلحاح على أن أحد أسباب الفشل هو المعركة بين تيارات إيديولوجية عربية وبين إسلاميين في كل قطر. معركة جرت خسائر على الجميع ولم تفد منها إلا منظومات الحكم الفاسدة. وإحدى نتائجها والمطلوبة عربيا هي أن نتمكن من حكم موضوعي على كفاءة الإسلاميين دون تعاطف مع آلامهم.

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه