ليس كل ما يقال مبادرات

غالبية الندءات التي وصفت بالمبادرات خلال الشهور الماضية يتضح أنها صدرت من معسكر 30 يونيو

لم يكن نداء السياسي المصري معصوم مرزوق (العسكري والدبلوماسي السابق) سوى صرخة سبقها وسيلحقها صرخات أخرى في غابة تفتقد للحكمة والعدالة وتمتلئ بوحوش كاسرة تنتشي بتمزيق المصريين وتتغذى على دمائهم وأشلائهم، وترفض أي مسعى لإعادة لحمتهم، وها هو كبيرهم الذي علمهم القتل والخيانة والتفريط وقادهم إليها يتغني في كل مناسبة وآخرها لقائه مع الشباب يوم 30 من يوليو/تموز المنصرم ( أن لا مصالحة) وأنه ليس الشخص الذي يقبل بمصالحات، قد تكون كلماته تعبيرا حقيقيا عما يؤمن به، ويعمل عليه،وقد تكون مناورة سياسية يستهدف منها رفع السقف، أو تكون مجاملة لولي نعمته محمد بن زايد الراعي الرسمي للإنقلاب، والذي كان السيسي يتهيأ شخصيا لاستقباله بحفاوة في المطار بعد أيام قليلة ( وهو ما تم فعلا يوم الأربعاء) كاسرا كل البروتوكولات التي تصنف بن زايد في المرتبة الثالثة على الأقل رسميا في حكم الإمارات بعد رئيس الدولة شقيقه الأكبر خليفة الذي لا يزال رئيسا من الناحية الرسمية، وبعد نائب رئيس الدولة ورئيس مجلس الوزراء محمد بن راشد، وربما بعد كل شيوخ الإمارات السبعة(أعضاء المجلس الأعلى للاتحاد).

المبادرة الوحيدة

لا يمكننا وصف جملة النداءات والحوارات الصحفية التي حملت دعوات للمصالحة الوطنية والتي بلغت 7 خلال الشهور الأربع الماضية بالمبادرات، ذلك أن المبادرات تصدر من أطراف فاعلة، قادرة على تنفيذ ما تطرحه، أو تمتلك حدا أدنى من الجدية والقدرة على التنفيذ حتى إذا لم تستطع في النهاية تنفيذ ما تريد، وهذا الوصف لا ينطبق سوى على المبادرة الدولية التي طرحت إبان اعتصام رابعة في أغسطس/آب 2013، والتي شارك فيها ممثلون كبار للمجتمع الدولي على رأسهم كاترين أشتون مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوربي ونائبها برناردينو ليون، ووكيل الخارجية الأمريكية وليام بيرنز، ووزيرا الخارجية القطري والإماراتي، ومجموعة الحكماء الأفارقة، وهي المبادرة التي انتهت إلى الفشل لعدم تجاوب سلطة الانقلاب معها.

وصف نداء السفير معصوم ونداءات من سبقوه من شخصيات وطنية بأنها محض صرخات في البرية، لا يقلل من قيمتها إذا وضعناها في سياقها الصحيح بعيدا عن الأماني المغرقة في الوهم، فهي تعبير واضح عن استحكام الأزمة السياسية، وضرورة البحث عن مخرج للوطن، وهي إحلال للغة الحوار والتصالح محل لغة الإقصاء والتنابذ، والتحريض على الكراهية وتقسيم المجتمع التي ظلت عالية على مدار السنوات الخمس الماضية، وهي أحجار تلقى في بركة المياة الراكدة وكريهة الرائحة، وهي في حدها الأدنى إبراء ذمة لمن يطرحها بأنه فعل ما في وسعه لإنقاذ وطنه.

بملاحظة غالبية النداءات التي وصفت بالمبادرات خلال الشهور الماضية يتضح أنها صدرت من معسكر 30 يونيو، ومن شخصيات ظلت داعمة للسيسي وانقلابه بشدة حتى وقت قريب، بل كان بعضها داعما بقوة لتصفية الإخوان والخلاص التام منهم، قبل أن تكتشف أن ذلك ليس ممكنا، وقبل أن تنتقل إلى مربع المعارضة لنظام السيسي أو حتى الناصح الأمين له، وهذه الشخصيات تعبر عن اتجاه عام أصبح مقتنعا باستحالة تحقيق استقرار سياسي او اقتصاي أو أمني أو أي تنمية حقيقية في مصر طالما ظلت حالة الانسداد القائمة، ومن هنا جاءت نداءاتهم لعلها تجد آذانا صاغية، وهو مالم يحدث حتى الآن.

قوة التنفيذ

في الصراعات السياسية عادة تنجح المبادرات حين تصدر ممن يملك قوة لتنفيذها، سواء في شكل إغراءات لأطراف الصراع تقنعهم بقبولها، أو ربما عقوبات تجبرهم على ذلك، وفي الحالة المصرية لا يملك الأشخاص أصحاب المبادرات شيئا من ذلك، كما لا تتمتع السلطة القائمة بالحرص على المصلحة الوطنية التي تدفها لقبول أي نداءات لإنقاذ الوطن، فهي لا ترى الوطن إلا من خلال مصلحتها وبقائها جاثمة على صدره، ولن تقبل هذه السلطة أية دعوة للمصالحة إلا إذا حققت لها مكسبا، أو أنقذتها من خطر، والقوى الثورية المصرية لا تحسن تنظيم الغضب الشعبي المتصاعد، وتوظيفه في إطار مشروع متكامل لإنقاذ الوطن والخلاص من الحكم العسكري، ولا يملك سلطة الوعد أو الوعيد إلا دول وحكومات في المنطقة أو خارجها، تمتلك أوراقا تستخدمها مع نظام السيسي، وهي حين تستخدم تلك الأوراق فهي تستخدمها لمصلحتها أيضا التي قد تتحقق بحدوث استقرار سياسي واقتصادي وأمني في مصر، وهو ما دفع المجتمع الدولي للوساطة (الفاشلة)عقب الانقلاب مباشرة، لكن تلك الأطراف الدولية المهتمة بالشأن المصري لا تجد في الوقت الحالي حافزا قويا يدفعها للوساطة مجددا، خاصة في ظل تشرذم المعارضة المصرية التي لم تستطع حتى اللحظة التوافق على برنامج عمل وطني موحد (ثوريا أو سياسيا)، أو رؤية مقبولة لمصر المستقبل، والتي لا تزال تتنابز فيما بينها لأتفه الأسباب، ولم تعد مقنعة بالتالي لا لغالبية الشعب المصري ولا لغالبية المجتمع الدولي.

الخلاص من حكم العسكر

نقطة البداية للخلاص من الحكم العسكري هو توافق وطني حقيقي حول مشروع سياسي واقتصادي لإنقاذ مصر، يتعلم من الماضي دون أن يظل أسيرا له، ويتطلع للمستقبل من دون قفز في الهواء، يدرك هموم الشعب وشواغله المعيشية دونما تجاهل لبقية قضايا الحقوق والحريات وهموم الوطن الكبرى، ويدرك تعقيدات الأوضاع الإقليمية والدولية من دون أن ينسحق أمامها، ولعل موجة الندءات والمبادرات الأخيرة تسهم في صناعة هذا التوافق الوطني المنشود.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه