ليبيا ومكافحة الزندقة

أنشأت الدول العربية في أجهزتها الأمنية قسما لمنع انتشار التيار الإسلامي، لاسيما مع زيادة رقعة الصحوة الإسلامية، ووصولها إلى مختلف شرائح المجتمع، وهو ما عرف بقسم البوليس السياسي، أو وحدة مكافحة التطرف الديني، ومن عجائب القذافي أنه أطلق عليه اسم قسم مكافحة الزندقة! على اعتبار أنه يمثل الطريق الصحيح، وسأضع بين يديك تعريف الزندقة حتى تعرف المفارقة!

الزندقة: لفظ أعجمي معرب أخذ من كلام الفرس بعد ظهور الإسلام وعُرّب، وكانت تطلق على من يؤمن بكتاب المجوس، ثم توسعوا في استعمالها على كل إنسان يشكك في الدين، أو يجحد شيئاً مما ورد فيه، أو يقول بمقالة بعض الكفار، والفقهاء يطلقونه على المنافق الذي يبطن الكفر ويظهر الإسلام، وبعضهم يطلقه على الجهمية، والإمام أحمد يطلقه على علماء المعتزلة، وبعضهم يطلقه على الدهرية وغيرهم من الفرق والطوائف.

وأقسام المكافحة هذه وإن كانت لم تفلح في تحقيق أهدافها الكبرى، في محاصرة الفكرة ومنع انتشار الدعوة، إلا أنها نجحت نجاحاً مبهرا في اختراق التيار الإسلامي عبر دس العملاء والجواسيس الذين تستخدمهم عند الحاجة، لاسيما عند الرغبة في تفجير هذه الكيانات من الداخل، والأنكى من غرس الأفراد، إنشاء الفصيل الذي حمل راية التيار الإسلامي، وانتسب إلى المدارس السلفية، وهو تنظيم أمني بحت، ومخابراتي بامتياز، وهذا لا ينفي وجود من غرته الراية النقية، فتابع من غير روية، وما درى أنه راية عمية، وسلفية أمنية.

في دهاليز المخابرات السعودية

بدأ الأمر في دهاليز المخابرات السعودية التي أنشأت تيارا يحمل اسم السلفية، ويربى أفراده على الطاعة المطلقة للحاكم، فهو لا يُسأل عما يفعل، ولا يجوز الخروج عليه ولا مناصحته، حتى لو خرج هو على الأمة، أو عن الملة، وعلامة ولي أمرهم التي لا تتخلف، أنه متخصص في جلد ظهرك وأخذ مالك،

ويعددون نعوتا هي بحال قطاع الطرق أشبه، وبصفات اللصوص ألصق!

حتى خرج أحدهم متلفظا بما لا يقبله عقل صحيح، ولا تقره فطرة سليمة، حيث صرح بأن الحاكم إذا خرج على الهواء مباشرة يزني لمدة نصف ساعة، فلا يجوز لك أن تفزعه أو تنكر فعله، أو تغير قلوب الناس عليه!

ولو أن هذا النفاق رواه الثقات، دون أن يطالعه الناس بأعينهم لردوا خبر الثقة ورواية الصادقين.

استطاعت المخابرات السعودية أن تجعل لهذا التنظيم فروعا في أغلب الدول العربية، وأصبح الداعية اليمني ربيع المدخلي المقيم بالسعودية رأس التنظيم ورمزه، وإليه تنسب المدخلية.

ولا تكاد تُفرق بينهم وبين المدارس السلفية في شيء، إلا إذا ذكر الحاكم الظالم، أو ذكر عالم ممن يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويحاربون الفساد والاستبداد، عندها يسقط قناع السلفية، وتظهر السحنة الأمنية، ويتحول الحمل الوديع الذي كان يسبح بحمد الحاكم الطالح، إلى ذئب كاسر ينهش لحم العالم الصالح.

كراسة التعليمات

وكانت صلاتهم بالأجهزة الأمنية في الدول العربية متينة وقوية ،حتى تنبه بعضهم إلى مكرهم وخيانتهم، وظهور حقيقة ولائهم لحكام السعودية فقط، لأن كراسة التعليمات لم تغير اسم ولي الأمر حسب كل دولة، فبقي الولاء لآل سعود ومن يوالونهم، وظهر ذلك بجلاء في ملف ليبيا، حيث كان القذافي في فترة عدائه السافر للسعودية، يُوصف بكل أوصاف الكفر والردة، وكانت السلفية الأمنية تنشر آراءه وأفكاره التي تصادم الدين وتحارب الشريعة “وهي كذلك”، بما أنشأ يقينا صحيحا في نفوس الجميع، أنه يدعو إلى دين جديد، بكتاب جديد أسماه الكتاب الأخضر….

لكن بعد مقتل القذافي، واحتدام الصراع بين الثوار والعسكر، وخشية السعودية ومن معها في معسكر الثورة المضادة من انتشار الربيع العربي ونجاحه،تحولوا إلى مؤازرة حفتر ودعمه بالمال والأنفار، وأصبح المدخلية في ليبيا هم عصب عصابة حفتر وفي صفوفها الأولى، لاسيما بعد بيان ربيع المدخلي الذي دعا فيه لنصرته، باعتباره بقية ولي الأمر الذي تجب طاعته، وتلاشت فتاوى تكفير القذافي، وتحريفه العلني للقرآن الكريم، لأن ولي الأمر الحقيقي في الرياض غير فتواه، بما يؤكد أن ولاء المدخلية في كل البلاد العربية لآل سعود فقط، ومن تتبع مواقفهم في الدول التي ليست على هوى آل سلمان يدرك ذلك بغير عناء.

السيطرة على برهامي

لكن هذا النموذج الفج المتكرر لم يلق رواجا في مصر لأسباب كثيرة ليس الآن مجال سردها، فبقي الفكر المدخلي بصورته النمطية في صورة أفراد كسعيد رسلان، ومحمود الرضواني، واستُنسخت التجربة لكن على الطريقة المصرية، من خلال السيطرة على “ياسر برهامي” أحد أبناء الجيل الثاني في المدرسة السلفية بالإسكندرية، من خلال رصد تطلعه إلى القيادة، وحرصه على تخطي شيوخ الجيل الأول الذين تعلم على أيديهم، ولم يكن هذا سهلا في مجتمع سلفي علمي، فكان الحل في إنشاء حزب سياسي، يقوده برهامي من خلال من على شاكلته داخل المدرسة، اعتمادا على أن منهج شيوخ الجيل الأول هو النأي بالنفس عن هذا المعترك والزهد فيه، وبذلك أصبح حزب النور هو الذراع الأمنية داخل الحركة الإسلامية، والذي يتتبع مواقفه في المراحل المفصلية، من بداية ثورة يناير إلى الانقلاب عليها يرى ذلك بجلاء، وأن مواقفهم لم تكن رمادية بل كانت حالكة السواد، والمفارقة أن أول من نبه الناس إلى خطرهم، هم رموز السلفية في القاهرة، مثل الشيخ فوزي السعيد رحمه الله. 

وبذلك أضاف انقلاب 3 يوليو ضلعا ثالثا إلى المؤسسات الدينية التابعة للنظام، المتمثلة في الكنيسة وقيادات الأزهر الشريف، وأصبحت رأس الحربة مثلثة في يد العساكر، يطعنون بها متى أرادوا.

ولو ضربنا مثالا بآخر المواقف ستجد أن الكنيسة كانت سباقة إلى تبني خطاب النظام في التصعيد ضد ليبيا، ربما من باب “اللهم أهلك الظالمين بالظالمين” ، في حين أن ملف سد النهضة أشد خطرا على مصر كلها، والكنيسة تملك وسائل ضغط على إثيوبيا التي تتبعها، وتدين بالولاء الديني لها، حتى رئيس الوزراء آبي أحمد اختار دين والدته التي عمدته على طقوس الكنيسة المصرية، وتربى على تعاليمها، لذا لم يطالبه أحد بالتكفير عن يمين اللغو الذي كرره خلف السيسي والذي اعتبره كافيا في حل الأزمة، والحقيقة أنه يكفي في ميزان العقلاء للحجر عليه، ومنعه من التصرف في قليل أو كثير.

ثم صدر بيان مشيخة الأزهر الذي أعلن عن دعمه لموقف النظام في الملف الليبي، وأكد على ضرورة الحلول السلمية، ولا أظن أن مشيخة الأزهر أصدرت هذا البيان مختارة، ويظهر هذا في الصياغة، لكن أمر الدماء المعصومة، والاعتداء على دولة جارة، ورهن القرار المصري حسب اتجاهات أبوظبي لتقليل خسائرها، مضحين في سبيل ذلك بالدماء والأبناء، وحرب الأشقاء، هذا مما لا ينبغي السكوت عنه، ولا المداراة فيه، ودور أهل العلم الدعوة إلى الإصلاح ومناصرة الحق، وليس مباركة طبول الحرب، التي تقرعها يد الطيش، وباعثها النزق، والمناكفة السياسية، ثم إن رئيس الحكومة الشرعية في ليبيا مستعد أن يحلف بكل الأيمان المغلظة، في صحن الجامع الأزهر أنه سيحافظ على أمن مصر وسلامتها، فلماذا لا نقبل منه وينتهي الأمر، ونقبل من ليبيا ما قبلناه من إثيوبيا ؟!

بيان النور

ثم اكتمل الضلع الثالث ببيان حزب النور، الذي صدر متأخرا، وكنت قبل أمس أسأل صديقا عن سبب تأخرهم في دعم حفتر ومن معه من المدخلية؟ فأجاب بعادته المفرطة في حسن الظن، فلما أخبرته بصدور البيان اليوم، علا وجهه كرب شديد، وسمعته يتمتم قائلا: يبدو أن زنادقة المخابرات ملة واحدة.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه