لهم الحياةُ .. ولنا الحسرةُ

 

 

مِنْ حَقِّ المُواطنِ البريطانيِّ أنْ يفْخرَ بكونِهِ مُنتميًا لهذَا البلدِ، وأنَّ لدَيهِ برلمانًا اسمُه مجلسُ العُمومِ، وهُوَ أقْدمُ برلمانٍ فِي العالمِ، فَبريطانيا أقْدمُ وأعْرقُ ديمقراطيّةٍ. وهِيَ تُمسكُ فِي يدَيها بأطرافِ الحُسنِ فِي العراقةِ والتّاريخِ والنّفوذِ الكونيِّ القديمِ، والنّفوذِ الدّوليِّ الحديثِ، وحتّى الملكيّةِ فِيهَا هِيَ الأشهرُ عالميًّا. وعندَمَا وُصفتْ بأنَّها الإمبراطوريّةُ الّتِي لا تغربُ عنْها الشّمسُ، فهذَا لأنَّها كانتْ تحتلُّ مساحاتٍ شاسعةً مِنَ الْعالمِ، وكانتِ الشّمسُ إذَا غابتْ عَنْ منطقةِ فِي مُستعمراتِها فإنَّها تشرقُ فِي نفسِ اللحظةِ فِي منطقةٍ أُخْرَى.

دورات التاريخ

الأمرُ نفسُه حدَثَ زمنَ الخلافةِ العباسيّةِ ومجدِ المُسلمينَ حينَما اتّسعتْ مساحةُ الدّولةِ إلَى درجةٍ يُنسب فِيهَا للخليفةِ هارونَ الرّشيدِ أنَّه كانَ عندَما ينظرُ إلى غيمةِ المطرِ يقولُ لها امطرِي حيثُما شئتِ فسيأتينِي خراجُك. كانتْ دولةُ العبّاسيّين مصدرَ الحضارةِ والتقدّمِ العلميِّ والتكنولوجيِّ آنذاكَ، وكانتْ حاضرةَ الشِّعرِ والأدبِ والفكْرِ والتأليف والمُوسيقا والنّقاشِ الدّينيِّ، بينَما كانتْ أوربا وبقيةُ أُممِ الأرضِ تغرقُ فِي وِهادٍ مِنَ الْجهلِ والتّخلُّفِ والظَّلامِ.

والتَّاريخُ الإنسانيُّ دوراتٌ تتعاقَبُ علَى الدّولِ والأُممِ شروقًا وغروبًا، إذْ بعْدَ التردِّي نهضتْ أوربا وأسّستْ حضارتَها علَى قواعدِ الحضارةِ العربيّةِ الإسلاميّةِ، ويحلُو للنّخبِ العربيّةِ القولُ إنَّ أوربا كانتْ تعيشُ فِي ظلامٍ دامسٍ خلالَ العُصورِ الوُسْطَى، وكانتْ ممالكُها تخضعُ لحُكمِ الطُّغيانِ السّياسيِّ المُتحالفِ مَعَ الطُّغيانِ الدّينيِّ، وبالمُقابلِ كانَ المُسلمونَ الأمّةَ الأُولى مِنْ حيثُ الأنوارُ والتّقدّمُ والسّيادةُ، ثُمَّ تبدّلتِ المواقعُ، وخرجَ الأوربيُّ مِنَ الظَّلامِ إلَى الشَّمسِ السَّاطعةِ، ودخلَ العربيُّ والمُسلمُ فِي نفسِ “الكهفِ” المُظلمِ، وتحوّلتْ بلادُهُ إلَى غنيمةٍ.

بناء القلاع.. غياب الحضارة

الدّولةُ العُثمانيةُ تتحمّلُ المسؤوليةَ عمّا آلَ إليهِ وضعُ البلدانِ العربيّةِ والإسلاميّةِ الّتِي خضعتْ لحُكمِ سلاطينِها قُرونًا طويلةً، فقدِ انْهمكتْ فِي توسيعِ حصَّتِها منَ الْأرضِ والتمدُّدِ فِي كلِّ القاراتِ بالحروبِ، ولمْ تهتمَّ بتشييدِ النّهضةِ، وتأسيسِ الحضارةِ، والعنايةِ بالإنسانِ لَا فِي المركزِ الّذِي كانتْ تحكُمُ مِنْهُ، ولَا فِي البلدانِ الّتِي حكمتْها بقبضةٍ مِنْ حديدٍ.

كانَ جلُّ اهتمامِها بناءَ القلاعِ لحمايةِ ولاتِها، والسجونِ لقمعِ رعيّتِها، وضاعتْ فلسطينُ مثلًا، وهِيَ تحتَ الحُكمِ العُثمانيِّ، وإذَا كانَ يُشاعُ أنَّ السُّلطانَ عبدَالحميد رفضَ بيعَها أَو التّفريطَ فِيهَا لليهُودِ فإنَّهُ لمْ يستطعْ حمايتَها وتسبّبَ ضَعفُ دولتِهِ فِي سلبِ البريطانيينَ لهَا، ثُمَّ منحُوها لليهُودِ مجانًا.

تركيا اليومَ، وكانتْ مركزَ الخلافةِ، وهِي ما تبقَّى مِنْ أكبرِ إمبراطوريّةٍ فِي التّاريخِ، لا تُقارنُ فِي القوّةِ والنّفوذِ والتّأثيرِ الدّوليِّ ببريطانيا مركزِ الإمبراطوريّةِ الّتِي كانتْ لا تغيبُ عنْهَا الشَّمسُ، رُغمَ أنَّ هذَا المركزَ الأوربيَّ القويَّ عبارةٌ عَنْ مملكةٍ صغيرةٍ تتشكّلُ منِ اتّحادِ أربعةِ كياناتٍ.

وزن الدولة وقيمتها

ومُتابعةُ وترقّبُ العالمِ للتّصويتِ علَى خُطةِ خروجِ بريطانيا مِنَ الاتّحادِ الأوربيِّ، واستمرارُ هذَا الاهتمامِ إلَى اليومِ التّالِي فِي التّصويتِ عَلَى الثّقةِ فِي الحُكومةِ يكشفُ وزنَ وقيمةَ بريطانيا، ومثلُ هذَا الانشغالِ الواسعِ بحدَثٍ داخليٍّ لدولةٍ مَا لا يتمُّ إلَّا معَ البلدانِ الّتِي تُعتبرُ مراكزَ ومفاصلَ العالمِ.

لمْ تخرجْ تركيا مِنَ الْحِقبةِ الإمبراطوريّةِ قويةً عسكريًّا واقتصاديًّا كمَا خرجتْ بريطانيا أَو فرنسا بعْدَ انسحابِهِمَا مِنَ الْمُستعمراتِ، إذْ إنَّ كلَّ دولةٍ مِنْهُمَا احتفظتْ بوجودٍ وتأثيرٍ مُهمٍّ لهَا، كمَا لمْ تكُنْ مثلَ روسيا الّتِي حافظتْ علَى قوَّتِها بعْدَ تفكُّكِ وزوالِ الاتّحادِ السّوفييتِيّ، ومثلُ تركيا لمْ تصِرْ بغدادُ أو دمشقُ أُو القاهرةُ عواصمَ لدولٍ ذاتِ نفوذٍ باعتبارِهَا وريثةَ حواضرَ قادتْ وَفرضتْ كلمتَها خلالَ مراحلَ تاريخيّةٍ استمرّتْ عُقودًا طويلةً، حيثُ دخلتْ بعدَ الضَّعفِ والانهيارِ فِي عُصورٍ وُسطَى مُظلمةٍ مُمتدَّةٍ تحتَ الحُكمِ العُثمانيِّ، ولمْ تُؤسِّسْ دولًا ذاتَ نفوذٍ بعْدَ تحرُّرِها واستقلالِها.

وربّما مصرُ كانتْ أفضلَ نسبيًّا، حيثُ تحرَّرَتْ مِنْ قبضةِ الحُكمِ المُباشرِ لدولةِ الخلافةِ فِي عهدِ محمّد علي، وأخذتْ تبنِي تجرِبةً فِي النّهضةِ، لكنَّها لمْ تكتملْ، ولَا تزالُ حتّى اليومَ تنتقلُ مِنْ تجرِبةٍ منقوصةٍ إلَى أُخرَى مُشابهةٍ لتعيشَ فِي ضبابيّةِ وغيابِ الرؤيةِ لملامحِ مشروعٍ نهضوي جادٍّ ودائمٍ.

وعراقُ الخلافةِ العباسيّةِ قمّةِ المجدِ للمُسلمينَ ينتهِي بِهِ المطافُ للسّقوطِ اليومَ فِي مُستنقعِ المُحاصصةِ الطّائفيّةِ والخضوعِ المُباشرِ فِي القرارِ لأطرافٍ خارجيّةٍ، والشامُ بتاريخِهِ الأُمويِّ الزّاهرِ باتَ مُستباحًا مِنَ الْجيرانِ ودولٍ كثيرةٍ، وبركُ الدّماءِ تُغطّيهِ، وشواهدُهُ الحضاريَّةُ تحوّلتْ إلَى أطلالٍ؛ لأنَّ شعارَ الديكتاتورِ؛ إمّا البقاءَ وإمّا الإبادةَ.

لماذا بريطانيا قوية لليوم؟

فخرُ البريطانيِّ ببلدِه العريقِ، الّذِي لمْ يهنْ أَو يضعفْ بعْدَ تجريدِهِ مِنْ مُستعمراتِهِ السَّابقةِ، وغيابِ الشَّمسِ عنْهُ، حتّى فِي مركزِهِ لندنَ، يرجعُ إلَى ديمقراطيّةِ الحُكمِ وهِي صلبُ بِناءِ الدّولةِ الّتي تريدُ أنْ تكونَ مُؤثِّرةٍ فِي الحاضرِ، كمَا كانتْ فِي الماضِي، هذَا النّهجُ هُو سِرُّ احتفاظِ بريطانيا بقوَّتِها، وهِيَ تلِي أمريكا فِي النّفوذِ رُغمَ فوارقِ القوّةِ بينَهما، وتسبقُ الصينَ، واليابانَ وألمانيا، وفرنسا، وروسيا، رُغم أنَّها اقتصاديًّا تأتِي بعْدَ الدّولِ الثّلاثِ الأُولى.

جلسةُ البرلمانِ- وهُوَ التّاجُ الثّمينُ للدّيمقراطيّةِ فِي بريطانيا، الّتِي رفضتْ فِيها الأغلبيةُ الكاسحةُ خُطةَ رئيسةِ الوزراءِ تريزا ماي للخُروجِ مِنَ الاتّحادِ الأوربيِّ- شاهدٌ حيٌّ علَى قيمةِ الحُكمِ المسؤولِ المُتجذِّرِ فِي هذَا البلدِ، ولهَذَا ستظلُّ بريطانيا دولةً كُبرَى حتّى وإنْ لمْ تتوفَّرْ لهَا كلُّ المُقوّماتِ الماديةِ.

نحن وهم .. فوارق هائلة

الفارقُ الهائلُ يظهرُ بينَهم وبينَنا عندَما نتذكَّرُ مثلًا الجلسةَ المهزلةَ لمَا يُسمَّى بمجلسِ الشّعبِ السوريِّ عامَ 2000، عندَما مرّرَ تعديلًا دستوريًّا خلالَ دقائقَ لخفضِ سنِّ الترشُّحِ للرّئاسةِ لتمكينِ الابنِ بشار مِنْ وراثةِ الأبِ حافظ، الّذِي لمْ تمرّ ساعاتٌ علَى وفاتِهِ ليحكمَ سوريا باعتبارِ أنَّ الدّولةَ ملكيةٌ خاصةٌ لآلِ الأسدِ.

وفِي البرلمانِ المِصريِّ الذي يُفترضُ أنَّهُ شهِدَ معاركَ مِنْ نوّابِ المُعارضةِ والمُستقلينَ وبعضِ نوّابِ الحزبِ الحاكمِ فِي قضايَا مُهمّةِ، وسجلُّه قبلَ يوليو 1952 شهِدَ فتراتٍ مُميّزةً فِي الأداءِ البرلمانيِّ بوجودِ تدافعٍ حقيقيٍّ بينَ الأغلبيةِ والمُعارضةِ، خلالَ التّصويتِ علَى نقلِ تبعيّةِ “تيران” و”صنافير” عَنِ الْوطنِ الأُمِّ مِصرَ، وهِيَ أهمُّ قضيةٍ وطنيّةٍ تتعلّقُ بحدودٍ تاريخيّةٍ ثابتةٍ للدّولةِ المِصريّةِ منذُ نشأتِها، وأهمُّ قضيّةٍ يُناقشُها برلمانٌ مِصريٌّ طوالَ تاريخِهِ، كانَ النوّابُ يتسابقونَ فِي التّأييدِ، وتأكيدِ سعوديّةِ الجزيرتَينِ، باستثناءِ أقلّيةٍ محدودةٍ. لَا مُقارنةَ مُطلقًا بينَ ما شهِدْناه فِي مجلسِ العُمومِ مساءَ الثلاثاءِ الماضِي بشأنِ موضوعٍ يكتسبُ أهميةً للبريطانيّينَ، لكنَّهُ ليسَ وجوديًّا لبريطانيا، وبينَ تعامُلِ البرلمانِ المِصريِّ مَعَ قضيةِ الجزيرتَينِ الّتي ترتبطُ بالوجودِ والتّاريخِ والحدودِ والتّرابِ الوطنيِّ.

جوهر قيام دولة فاعلة

هذَا الملمحُ يقدِّمُ محورًا مركزيًّا آخرَ فِي جوهرِ بناءِ وقيامِ واستمرارِ الدّولةِ الّتي تريدُ أنْ تكونَ فاعلةً ومُقدرةً ومهابةً ونافذةً فِي مُحيطاتِها المُختلفةِ؛ دولةِ الإرادةِ الشّعبيّةِ لا الإرادةِ الفرديةِ، دولةِ الحفاظِ علَى المصلحةِ العامّةِ بعيدةِ النظرِ لا المصلحةِ الخاصّةِ المحدودةِ ضيّقةِ النّظرِ، دولةِ السُّلطاتِ المُستقلةِ المُتنافسةِ فِي خِدمةِ الشّعبِ لا السُّلطاتِ الباهتةِ الشّكليّةِ لخدِمة الحاكمِ، دولةِ المُمارسةِ الدّيمقراطيّةِ الحقيقيّةِ لا الحُكمِ السُّلطويِّ المُطلقِ، دولةِ الحُرّياتِ لَا الانْتهاكاتِ، دولةِ تفعيلِ الدّستورِ واحترامِهِ لا تجميدِهِ وإهانتِهِ. وبالمُناسبةِ بريطانيا ليسَ لهَا دستورٌ مكتوبٌ، ومَعَ هذَا تُمارسُ حياةً سياسيّةً دستوريّةً رفيعةً، فِي حينِ أنَّ كثيرًا مِنْ بلدانِ العالمِ لهَا دساتيرُ لكنَّها والعدمَ سواءٌ.

يبقَى للبريطانيِّ الفخرُ بدولتِهِ وديمقراطيّتِهِ وبرلمانِهِ ونفوذِ بلادِهِ وحياتِهِ الكريمةِ، والأمرُ نفسُهُ لكلِّ مُواطنٍ حرٍّ فِي كلِّ بلدٍ حرٍّ، بينَما يبقَى للعربيِّ والمُسلمِ الحسرةُ الدّائمةُ.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه