لن نحتفل بالانتصارات قبل تحرير مصر

فهل يا ترى من حق المصريين الاحتفال بثورة يوليو التي جنى ثمارها إقطاعيون ومحتكرون جدد ورثوا مقاعد الإقطاعيين والمحتكرين الذين أطاحت بهم الثورة المباركة.

كلما زادت الفاشية المصرية فشلاً وطغياناً وفساداً زاد خطابها الحماسي حول انتصارات وهمية، وارتفعت حدة النبرات القومية والوطنية والجهادية تجاه أعداء من دخان ومخاطر من خيال، وبالطبع يستتبع ذلك استدعاء مناسبات قومية لانتصارات تاريخية وإعادة تدوير الاحتفالات بها كوسيلة لخلق حالة من الصخب والضبابية، يضيع وسطها الإحساس بحال الأمة المتردي وواقع الشعب المتدني!! مسكين الشعب المصري يعيش دائماً واقعا وأمورا متشابهات لا وضوح فيها ولا بيان، طبقاته شبه طبقات لا تحمل صفات متكاملة، دولته شبه دولة لا تحمل عوامل وسمات الدولة المتكاملة، حتى تاريخه يميل إلى الترجيحات أكثر من اليقين.

التف الشعب المصري حول قيادته الشعبية بداية القرن التاسع عشر، وهزم الفرنسيين في عز مجدهم وقوتهم، وأتت الانتصارات وارتفاع المشاعر الوطنية والقومية بثمارها فثاروا على الوالي المعين من قبل الخليفة العثماني، ونصبوا مكانه والياً تحت مظلة الإرادة الشعبية، وانتهى الأمر بإلقاء القيادات الشعبية في السجون وتحويل أفراد الشعب إلى دمى وأدوات في مشروع نهضوي صعد بالبلاد واقتصادها عاليا حاملا معه طبقات تستمتع بهذا الصعود وطبقات أكثر تعاني من العبودية والقهر والظلم، وهي نفسها التي كانت وقود مقاومة المحتل الفرنسي، فهل يا ترى من حق هؤلاء الاحتفال بانتصارهم على الفرنسيين أم هو حق هؤلاء الذين جنوا ثمار النصر ولذته؟

التف المصريون حول عرابي وساندوه وواجهوا الخديوي توفيق في أول ثورة شعبية عسكرية على الحاكم المستبد والشراكسة المسيطرين على الجيش، وأطلق التاريخ عليها “الثورة العرابية”، وانتهى الأمر بمأساة خيانة من الخديوي، وتسليم مصر للمستعمر الإنجليزي، وفر أتباع عرابي من بسطاء المواطنين وتشردوا في أنحاء البلاد حتى أن أسراً كاملة تشرذمت في أكثر من محافظة، ولم يتبق في المشهد سوى الخديوي توفيق وأعوانه الخونة يصطحبون قيادة الاستعمار في موكب عظيم في الإسكندرية، ويدعمه إعلام خائن ممثل في جريدة الأهرام آنذاك التي زفت “بشرى” احتلال إنجلترا لمصر، فهل يا ترى من حق المصريين الاحتفال بالثورة العرابية، أم هو حدث جنى ثماره الخونة وعملاء الاستعمار؟

الحركة المباركة

فرح المصريون بحركة الجيش في 23 يوليو/تموز 1952 واعتبروها حركة مباركة ضد الإقطاع واحتكار رأس المال والفساد، وخرج البسطاء في الشوارع يصرخون تأييداً للثورة المباركة، وأصدرت الثورة قوانين الإصلاح الزراعي وأعادت توزيع الأراضي الزراعية، وبدأ الشعب مرحلة جديدة للحياة في ظل طبقات بلا فوارق عميقة، فهل ذابت الفوارق الطبقية؟، ظل البسطاء الذين أيدوا الثورة المباركة في أدنى الخريطة الطبقية، واقتصر الحراك الطبقي على تبادل المواقع بين بشاوات تمت إزاحتهم ليجلس مكانهم بشاوات جدد من كبار الضباط والبيروقراطيين ودروع الفساد المحيطة بهم.

فهل يا ترى من حق المصريين الاحتفال بثورة يوليو التي جنى ثمارها إقطاعيون ومحتكرون جدد ورثوا مقاعد الإقطاعيين والمحتكرين الذين أطاحت بهم الثورة المباركة، بينما ظل الشعب في أدنى الخريطة الطبقية.

في عام 1967 وبعد هزيمة مصر أمام إسرائيل، حمل الشعب البائس مرارة الهزيمة وتوابعها فوق رأسه طواعية منطلقاً من أحاسيس وطنية لم يزعزعها الظلم والقهر الواقع عليهم من الحكام المتسببين في الهزيمة، ونسى الشعب آلامه وحشد موارده، وربط على بطنه ليعيد بناء الجيش بجنود وضباط ينتمون إلى فئات أدنى الخريطة الطبقية وأوسطها، فلم نسمع عن رجل أعمال من الذين كانوا في سن التجنيد خاضوا الحروب أو حتى التحقوا بالجيش، ما علينا، دخلت مصر حرب 1973 بجنود وضباط من أبسط فئات الشعب المصريين مدفوعين بوطنية حقيقية ورغبة صادقة في تحرير الأرض، وتحت قيادة مدفوعة بالضغط الشعبي ورغبة حقيقية لتحريك المشهد من أجل الدخول مرحلة جديدة يتحول فيها العدو إلى صديق، ويتحول فيها الوطن إلى تابع للولايات المتحدة والاحتكارات الدولية، ولا عجب فأنور السادات دخل هذه الحرب وهو يحمل قناعة أن 99 في المائة من أوراق اللعبة في يد أمريكا الحليف الإستراتيجي لإسرائيل، بل كان دائما يحمل ميولا وأحلاما حول الارتماء في حضن الصديق الأمريكي.

دفع المصريون دماءهم في هذه الحرب التي تلقفتها من أول يوم الدبلوماسية المصرية منزوعة الأهداف الوطنية لتضع حدوداً لهذا الانتصار، ولتضع أيضاً حدوداً أقوى للنهوض الشعبي الذي طالما خشيته الأنظمة الفاشية والفاسدة.

الثغرة

فى كتابه أو مذكراته المعنونة بحرب أكتوبر، اتهم الفريق سعد الدين الشاذلي أنور السادات بتدخله المستمر في الخطط العسكرية أثناء سير العمليات على الجبهة، وتسببه في ثغرة الدفرسوار، التي أخفى حقيقتها عن الشعب وتدمير حائط الصورايخ، وحصار الجيش الثالث الميداني لمدة 3 أشهر كانت تصلهم فيها الإمدادات تحت إشراف الجيش الإسرائيلي، واتهمه أيضا بالتنازل عن النصر والموافقة على سحب أغلب القوات المصرية إلى غرب القناة في مفاوضات فض الاشتباك الأولى.

إذا وضعنا ما ذكره سعد الدين الشاذلي في كتابه بجانب المعلومة التي تشير إلى البرقية السرية التي أُرسلتها مصر إلى كسينغر مستشار الرئيس نيكسون للأمن القومي بعد العبور بيومٍ واحد مفادها أن مصر على استعداد لوقف إطلاق النار، والتوصل إلى سلام مع إسرائيل مقابل انسحاب إسرائيل من سيناء، فإن هذا يضع عشرات من علامات الاستفهام حول هدف القيادة السياسية من دخول حرب أكتوبر، والذي من المؤكد يختلف عن دوافع الشعب الذي خاض الحرب بدمائه، وهو ما تأكد بعد ذلك من دخول مصر اتفاقية سلام ومعاهدة مع إسرائيل دارت حول بنودها العديد من الشبهات، وتضمنت بنوداً سرية تم إخفاؤها عن الشعب، وهو ما انتهى إلى الحال الذي نعيشه من تشرذم لوحدة الكيان العربي وانهيار الوضع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي في مصر، وحصار المقاومة الفلسطينية الحقيقية وتدمير معالم قضية الأراضي المحتلة والابتعاد إلى أقصى مدى بهدف تحرير كافة الأرضي المحتلة، في مقابل صعود إسرائيلي وأمريكي واضح وهيمنة شديدة على المنطقة، وتحكم شبه كامل في مقدرات معظم الشعوب العربية.

الاحتفال بالنصر

فهل يا ترى من حق المصريين الاحتفال بنصر أكتوبر الذي دفعوا ثمنه من دمائهم وعرقهم وجهودهم وحولته القيادة السياسية إلى نصر للعدو، هل يا ترى من حقنا الاحتفال بهذا النصر قبل استعادة نتائجه المسلوبة من أنظمة فاشية فاسدة.

خرج الشعب المصري في يناير 2011 ليسقط النظام الفاشي بحكوماته الفاسدة المتعاقبة في ملحمة شعبية غير مسبوقة، ونجحت ثورة الشعب، وكالعادة سرقها ساسة الدولة العميقة بفعل المؤامرة وقلة الخبرة الناجم عن إنهاك الشعب وتدمير خبراته الثورية والثقافية عبر عقود حكم النظام الفاسد.

فهل من حق الشعب المصري أن يحتفل بثورة مسروقة نتائجها قبل أن يقضي على سارقه وقاتل أبنائه؟

المسخ الذي نعيش فيه والذي يقوده جوقة من الإعلاميين الفاسدين ورجال الأعمال المستغلين محاولين إيهامنا بجولات نصر ونجاحات وهمية في مباريات كرة القدم ومسابقات ملوك جمال الشباب والشابات وأجمل عيون وأجمل سيقان… إلخ… هي كلها محاولات لن تهز قناعاتنا من أننا لن نحتفل بأي نصر قبل تحرير مصر من سارقي الأفراح والثورات، لن نحتفل بكل انتصاراتنا عبر التاريخ قبل أن نسقط الفاشية والفساد ونفرض حكماً شعبياً ديمقراطياً، ربما يرونه بعيداً ونراه قريباً.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه