لن أكون سمكة ذهبية فى حوض زجاجى

(مدخل)

هل أنت قنفذ أم عصفور؟… هكذا سألتني صديقة أوربية من كبار نقاد “فنون الديجيتال”، فتحولت الأمسية إلى حلبة فلسفية تتقافز فيها أسئلة وجودية مكررة على طراز: من نحن؟، ما الوطن؟، لماذا نعيش؟، وكيف نعيش؟، وأين الحقيقة؟. كنا قد تعارفنا منذ سنوات في ورشة للسينما المستقلة، وشاركنا معا في تحليل فيلم لمخرج ألمانى شاب من أصدقائها يدعى “أندريا شور”، وأبديت رغبتي في الاحتفاظ بنسخة من الفيلم، لكن الظروف حينها لم تسمح، لم تنس الصديقة رغبتي وفاجأتني في تلك الليلة بنسخة هدية من الفيلم، ومعها نسخة من فيلم فرنسي طلبت مني مشاهدته، على أن نتناقش في حوار موسع عن الفيلمين وعن قضايا الغربة ومعنى الوطن، للنشر فى دورية ثقافية هولندية مختصة بالفن المعاصر.

(الفيلم الألماني: مرفق سيرة ذاتية)

عنوان ردىء لفيلم جيد، يعتبر بمثابة سؤال غير تقليدي عن معنى الوطن، كما يعتبر تحذيرا غير تقليدي من تحول الإنسان إلى C.V، ويحكي عن فتاة فوضوية تدعى جريتا تعتزم القيام برحلة من ألمانيا إلى رومانيا، لكنها تخلفت عن موعد الطائرة، فيعرض عليها زميلها المنظم”ميشا” أن يصطحبها بسيارته المجهزة، لأنه يرتب للقيام برحلة تجوال فى أوربا بعد أن هجرته حبيبته، كان واضحا أن الرحلة مجرد معادل سينمائي للحياة كما يراها كل منهما، جريتا عصفور طليق، تحمل كاميرا فيديو تصور بها ما يعجبها من ذكريات، وتضع المشاهد (الذكريات) على جهاز الكمبيوتر المحمول الذى لا يفارقها وكأنه ذاكرتها الخاصة وجزء من كيانها، وتؤمن بالعمل التطوعى وتقدم سيرتها الذاتية لأى وظيفة تحبها فى أى مكان فى العالم، وهى فى طريقها الآن لوظيفة جديدة فى مدينة سيبيو الرومانية، لكن ميشا يبدو على النقيض.. إنه “قنفذ” يعيش داخل سيارته المجهزة ويخطط لكل شىء، وفى مشهد دال يتوقف بسيارته عند حدود رومانيا بعد أن ينظر فى الخريطة ويقول لجريتا إن الطريق خطأ، وعليه أن يعود ليسأل على الطريق الصحيح، فتصر جريتا أن تمضى فى الطريق لأنه يعجبها، ولأنها مصممة على عبور “الحدود”، وتقود السيارة بنفسها محاولة عبور حفرة ممتلئة بالماء، لكن السيارة تغرس فى الوحل، ويدور الإطار بلا حركة، ويحاول ميشا بيأس، وهو يثرثر غاضبا أن فكرة الاستمرار فى الطريق كانت خطأ ولابد من “ونش” لسحب السيارة، فتتركه جريتا دقائق وتعود مع قائد جرار زراعى من الريف الرومانى فيسحب السيارة وتكمل طريقها، وبعد تنويعات ووجهات نظر فى الحياة يفترق ميشا عن جريتا ويتركها فى الطريق، لأنه تسبب فى سرقة الكمبيوتر الذى يعتبر جزءا من هويتها، لكنهما يبحثان عن بعضهما ويجلسان على حافة تل فى نهاية الفيلم ويسألها ميشا عن مفهومها للوطن فتقول: “أنا”

بينما يجيب ميشا: الوطن هو “الآخرون”

(ما بعد الطوفان)

جريتا التى فقدت جزءا من ذاتها ترى أن الوطن حيث تكون وحيث تتحقق ذاتها، من غير تقيد بالجغرافيا والحدود والأسوار، بينما يرى ميشا أن الوطن حيث توجد فرص العمل و”نظام” للحياة، ويسألها عن خططها فى الحياة، فتقول ليس عندى خطة، ولأول مرة يقول ميشا المنظم أيضا وأنا أيضا ليس لدى خطط، ثم يتحدث عن حلمه بزيارة جبل آرارات فى أرمينيا، حيث يقال إن سفينة نوح رست هناك بعد الطوفان العظيم، فقد جاهر ميشا برأيه الذي طالما كتمه بداخله، والذي يعتبر فيه أن الطوفان هو بداية الحضارة الجديدة، موحيا وهو يجلس على حافة التل وأمامه الهاوية من أسفل والأفق فى السماء، أن كل الاحتمالات أصبحت مفتوحة، بعد أن اجتاحه طوفانه الخاص كما اجتاح جريتا التى فقدت فى الرحلة وظيفتها، وفقدت أيضا جانبا مهماً من ذاتها، عندما سرق الآخرون (بالمصادفة العمياء) خزانة ذكرياتها المحبوسة فى “لاب توب”، هكذا اختلطت علينا إجابة السؤال فى النهاية، فلم نعرف ما إذا كانت جريتا طوال الوقت عصفوراً طليقاً بحق؟، أم أنها “قنفذ اليكتروني” يتخفى فى صورة عصفور؟!.

(الفيلم الفرنسي – القنفذ)

اقتحمت المخرجة (مغربية الأصل) منى عشاش متحف الحياة، لترسم لنا بشاعة تحنيط الإنسان المعاصر من خلال اعتمادها على رواية فرنسية ذائعة الصيت بعنوان “أناقة القنفذ” لأستاذة الفلسفة (مغربية الأصل أيضا) موريل باربيرى، وأرادت من خلال تناولها للرواية في فيلم سينمائي، أن تفضح لعبة خداع المظاهر، وحيلة اختفاء البشر خلف أقنعة مستعارة، قد تؤدي إلى حجب النور عن الروح، وذبول الإحساس بطزاجة وتجدد الحياة.

(1)

“لا أريد أن أكون سمكة ذهبية فى حوض زجاجى”..

هكذا سجلت الصبية “بالوما” جانبا من اعتراضاتها على الحياة بعد أن قررت الانتحار وحرق شقة أسرتها، فور أن تكمل السنة الثانية عشر من عمرها!. بالوما التى تجاوزت الحادية عشرة تودع الآن طفولتها المرفهة، وتودع بعد 156 يوما حياتها المحنطة بعد أن سئمت من دور “القنفذ” الذى يختبئ داخل أشواكه بحثا عن حماية تعزله بالضرورة عمن حوله، لذا نراها دوما خلف الكاميرا، وكأنها تستخدم العدسة كحاجز يفصلها عن حياة لا تحبها ولا تعرف لها معنى، فوالدها الدبلوماسى اليسارى منصرف إلى أعماله ونجاحاته التى تجعل منه شخصية هامشية فى حياتها وفى الفيلم أيضا، وأمها موزعة بين الخمر وأدوية الاكتئاب والوحدة التى تدفعها لمخاطبة الزهور الاصطناعية، فى ملمح يذكرنا ببطل قصة تشيكوف الشهيرة “لمن أشكو أحزانى”.

(2)

الفيلم كما الرواية نقد لاذع للحياة البرجوازية الفارغة من المعنى، حيث نتعرف (فى مقابل شخصية بالوما) على الأرملة الفقيرة رينيه (54 عاماً) حارسة العمارة رقم 7 فى شارع جرينيل فى باريس، والتى يبدو مظهرها مهملاً وخشناً، لكنها شعلة من الذكاء والنشاط، فهى “القنفذ” الذى يرى الناس أشواكه، ولا يلتفتون إليها إلا باعتبارها مجرد “آلة عمل”، وعندما تتعرف إليها بالوما تكتشف أنها مثقفة تعشق السينما والموسيقى والقراءة، مغرمة بروايات تولستوى وأفلام المخرج اليابانى ياسوجيرو أوزو، الذى سكن نفس العمارة لفترة، وكان الوحيد الذى ناقشها بعمق وتعامل مع روحها وجوهر شخصيتها وليس مع شكلها ومظهرها الخارجي، ربما لأنه كان يعانى من أزمة إنسانية بعد أن هجرته ابنته، وفى لقائهما الأول استخدمت رينيه عبارة لتولستوى تقول إن “حياة العائلات السعيدة متشابهة”، وأضاف أوزو: “لهذا يعيش التعساء حياة متفردة”.. هكذا تناول الفيلم لعبة الأقنعة والمسافات التى يستخدمها الجميع للحماية من أذى متوقع حال التعامل مع الآخرين، وهكذا تبدو مقولة سارتر الشهير “الجحيم هو الآخرون”، وتتجلى قبلها “معضلة القنفذ” كما كتب عنها شوبنهاور كتابه الفلسفي (الصغير/ الكبير)

(3)

نتيجة تأثيرات أوزو يبدأ “القنفذ” فى التجمل، إذ تغير رينيه تسريحة شعرها وترتدى فستانا جديدا أهداه لها لتحتفل معه بعيد ميلاده فى مطعم يابانى، وترصد بالوما بكاميرتها التغيرات التى طرأت على رينيه، وتكتشف الطفلة أن الكاميرا التى كانت “حاجز اختباء” صارت “وسيلة معرفة”، و”جسر تواصل”، لذا تخبر عائلتها ذات صباح على مائدة الفطار أنها عرفت ماذا تريد أن تكون عندما تكبر:

أريد أن أكون “بوابة” مثل رينيه.

ليس مهما الدهشة التى فجرتها عبارة بالوما للعائلة، لأن الدهشة قد تصرفنا عن تنازل الطفلة عن فكرة الانتحار، إنها تفكر فى المستقبل، لقد صار لها غد يمتد حتى تكبر، وقد اكتشفت الطفلة ذلك عندما سمعت أمها تلقى تحية الصباح باحترام (صباح الخير يا مدام) على سيدة ترتدى فستانا أنيقا وتخرج بصحبة المخرج المعروف ولم تكن هذه السيدة سوى رينيه البوابة التى يهملها الجميع، لقد تعاملت الأم مع الفستان وليس مع الإنسانة، فهل يكفى أن يرتدى القنفذ جناحين لكى نسميه عصفورا؟..

ربما..

فهذا ما يحدث عادة.

(مخرج)

قرب النهاية، سنعود إلى سؤال البداية: هل أنت قنفذ أم عصفور؟…

فكر بنفسك.. فكر في نفسك، ربما تجد ما هو أجمل من الإجابة.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه