لماذا يحب المصريون الحكم العسكري؟!

استطاع النظام العسكري من خلال اللعب بطريقته التقليدية ذاتها -التي لعب بها طوال السنوات الماضية- أن يستوعب الحركات المدنية وتطويعها والتأمر عليها.

في مقالات سابقة تحدثت عن الضرورة التاريخية التي فرضت الحكم العسكري على كثير من بلدان العالم عقب الحرب العالمية الثانية ومنها مصر، وأشرت إلى أن الأنظمة العسكرية استقرت في حكم هذه البلدان فترة زمنية ترتبط بالضرورة التي فرضتها، وذكرتُ أن المنطقة العربية كانت لها خصوصية إضافية تتعلق بوقوعها تحت الاحتلال وارتباط الاستقلال فيها بالحكم العسكري.
وانتهيت إلى أنه مع انتهاء الضرورات التي فرضت الأنظمة العسكرية على كثير من دول العالم تحولت أنظمة الحكم فيها بشكل طبيعي إلى الحكم المدني فيما عدا بعض الأنظمة العربية وفي مقدمتها مصر كنموذج شديد الوضوح، وهو ما يطرح تساؤلات عدّة حول استمرار الأنظمة العسكرية وهيمنتها في مصر رغم انتفاء ضرورة وجودها.

الميل الشعبي للعسكر

وتتفرع التساؤلات لكثير من الموضوعات المتعلقة بهذا الأمر أهمها ما يتعلق بأسباب حالة الميل الشعبي اللامنطقي تجاه العسكر والوهم السائد بأن العسكر هم الفئة الوحيدة المهيئة للحكم، ويظهر هذا ليس فقط في التصريحات اللفظية لكن في التصرفات العملية التلقائية، وكأنها نابعة من منطقة غامضة في «لا شعور الشخصية المصرية»، وهو ما ظهر بوضوح وبشكل عملي في انحياز جمهور مدني من النُخب السياسية لشخصيات عسكرية وقت إجراء العملية الانتخابية وتفضيلها على المنافس المدني بحجج واهية كثيرة، رغم أن الوجود السياسي لهذه النُخب يستند في الأساس على رفض حكم العسكر، هذا بالإضافة إلى قناعة فطرية متراكمة لدى الكثيرين بأن الأصلح للحكم في مصر هم العسكر، بل هم الآلة الوحيدة القادرة على إدارة أي مؤسسة بكفاءة واقتدار!!

إذن، المشكلة ليست هيمنة جماعة العسكر على المجتمع المصري، لكنها تتعلق بقناعات خاطئة وفهم ملتبس وأحاسيس مرتكبة حول مفاهيم الحكم المدني ودور المؤسسة العسكرية، وللأسف كلها مفاهيم ذات جذور عميقة ممتدة منذ سنوات طويلة.

يروج البعض لفكرة أن هيمنة العسكر على الحياة السياسية في مصر وتدميرها بدأت مع حركة الجيش عام 1952 وإلغاء النظام الملكي وإعلان الجمهورية وتولي العسكر شؤون البلاد، وهما قسمان؛ قسم مقتنع بما يقوله مستندًا على رؤية تاريخية مبتسرة وغير متعمقة، وقسم ثان «كبير نسبيًا» يروج لهذه الفكرة في إطار عداء تاريخي مع النظام الناصري ومحاولة تحميله مسؤولية كل الكوارث المحيطة بالوطن، وخطورة هذا القسم أنه يبعدنا عن الرؤية الصحيحة لكثير من المشكلات وتحليلها مما يعرقل إمكانية الوصول لحلول لها، وهنا أوضح أنني لست بصدد الدفاع عن النظام الناصري بقدر ما أرغب في الوقوف على الأسباب الحقيقية لكثير من المشكلات دون تحميلها على أسباب وهمية بدافع من بعض الحقد والأحقاد والخلافات السياسية.

بداية الأخطاء

وفي اعتقادي أن هذه المفاهيم الملتبسة حول عدم الثقة في الحكم المدني والحاكم المدني والانسحاق الشديد أمام المؤسسة العسكرية بدأت منذ اللحظة المفصلية ما بين خروج الفرنسيين من مصر وتمرد المصريين على الحكم العثماني، ثم اختيارهم الجندي الألباني محمد علي التابع للجيش العثماني ليتولى شؤون البلاد بدلًا من الوالي العثماني (1801- 1805م).

وأهمية هذه اللحظة أنها كانت لحظة فريدة أدرك فيها الشعب المصري قوته وتنامت قدرته على المقاومة والتنظيم، وأفرز قيادة شعبية طبيعية من الشعب، واستعاد الثقة في نفسه بعد فترات تدهور واحتلال طويلة، وكان الامتداد الطبيعي أن تتولى هذه القيادات الشعبية شؤون البلد وإنشاء جيش مصري قوي استنادا على خبرات مقاومة الفرنسيين وهيمنة كل الفئات الشعبية على المشهد، بالإضافة إلى الارتباك في صفوف المماليك والعثمانيين، وانشغال إنجلترا وفرنسا بتصفية الحسابات بينهما.

إلا أن الخطأ الأول بدأ في هذه اللحظة المفصلية بتسليم مقاليد الحكم لمحمد علي بمباركة شعبية غير مبررة فانحرف المنطق عن طريقه الطبيعي.

ومنذ هذه اللحظة ترسخت فكرة الهيمنة العسكرية التي بدأت بمؤامرات للقضاء على أي بواقي للروح القومية والإجهاز على القوى الشعبية وتعظيم سلطة الحاكم العسكري ورجاله من الجند والتخلص حتى من المماليك الحلفاء العسكريين المرحليين للوافد الجديد على حكم مصر من غير المصريين.

حتى بعد انهيار امبراطورية محمد علي وتلاشي أحلامه التوسعية لم تنهض الروح القومية المصرية مرة أخرى، وظلت حركات المقاومة ضد احتكار أسرة محمد علي للحكم محصورة في إطار من الشرعية المتفق عليها والإذعان للأمر الواقع والإقرار به خاصة بعد الاحتلال الإنجليزي لمصر ووقوع المصريين في شرك عدم الفصل بين حكم أسرة محمد علي والاحتلال البريطاني، رغم  أن المحتل دخل مصر بمباركة الخديوي توفيق أحد أحفاد محمد علي!!!  

واستمر الحال عشرات السنوات وكان الشكل الظاهر هو ضرورة أن يكون الحاكم من أسرة محمد علي وصاحب خلفية عسكرية حتى آخر حاكم لمصر فاروق الأول الذي تم إلحاقه وهو ولي للعهد بكلية وولتش للعلوم العسكرية في بريطانيا التي كانت تحتل مصر!!

المؤسسة القادرة

وكانت كافة حركات المقاومة للنظام الملكي في مصر تعمل في إطار من الشرعية المتفق عليها وبعيدًا عن ساحة المنافسة على الحكم ولم يكن مطروحًا في هذه الفترة أي مطالب باسقاط النظام، ومن الملاحظ أن كل هذه الحركات المدنية السياسية كانت حريصة على أن يكون لها أعضاء داخل الجيش وذلك كإقرار ضمني أن الجيش هو الآلة أو المؤسسة الوحيدة القادرة على التغيير، وكان التصور السائد في هذه الحركات والجماعات السياسية أن عناصر هذه الجماعات داخل الجيش سيكون انتماؤها للفكرة أو الجماعة أكثر من انتمائها للمؤسسة العسكرية، وتوهمت قيادات الحركات السياسية بكل أطيافها أن مؤسسة الجيش تخضع لكافة القواعد التي تخضع لها كل مؤسسات الدولة؛ بل جماعات المجتمع المدني، ولم يدرك هؤلاء المفهوم المتجذر في وجدان الشعب والقيادات السياسية المجتمعية من أن الجيش هو المؤسسة الوحيدة القادرة على التغيير وهو ما انعكس على سيكولوجية كل المنتمين للمؤسسة العسكرية واقتناعهم تماما أن مكانهم الطبيعي هو قيادة المجتمع وليس مجرد الانتماء له أو الانخراط ضمن مؤسساته.

ماعلينا في ظل هذا الوضع وهذه المفاهيم كان من الطبيعي أن تكون الثورة على النظام الملكية ثورة مجتمعية بها مسحة سياسية بقيادة الجيش الذي فرضه المجتمع والساسة بشكل غير مباشر على المجتمع كقيادة وآلة وحيدة للتغيير.

وكالعادة بدأت مرحلة الحكم العسكري تعلن نفسها كمرحلة انتقالية لكي تضمن أوسع تأييد مجتمعي وشعبي، وبمجرد الاستلقاء على الحكم بدأت إجراءات التمهيد لاستمرار الحكم العسكري واستبعاد الحكم المدني تحت مظلة دعايات ومؤامرات هدفها ترويع الشعب وإدخاله في دائرة الاحتياج للعسكر لمواجهة مؤامرات ومخاطر دبرها العسكر ذاتهم بطريقة أو أخرى، وانتهى الأمر بسيطرة الحكم العسكري على مصر نهائيًا وتطبيع العلاقة بين العسكر والشعب بإعتبارهم حتمية وضرورة.

حتى بعد ظهور النظام العالمي الجديد وارتباك موازين القوة، توافقت النظم العسكرية مع النظام العالمي من خلال التقاء المصالح التي تتجاوز المبادئ المعلنة حول الحرية والديمقراطية.

اللعب بالقوى السياسية

وبعد الثورة الشعبية المصرية في 2011، استطاع النظام العسكري من خلال اللعب بطريقته التقليدية ذاتها -التي لعب بها طوال السنوات الماضية- أن يستوعب الحركات المدنية وتطويعها والتآمر عليها، ثم القضاء عليها مستندًا في الأساس على العقدة القديمة الراسخة في جذور المجتمع والتي تدور حول اليقين بأن القوى الوحيدة القادرة على التغيير والادارة وتوفير الأمن والآمان هم العسكر حتى لو انتقصوا من مساحة الحرية والعدالة الاجتماعية،حتى أن سيدة اقترحت أن تتولى هيئة عسكرية ادارة اتحاد الكورة بعد هزيمة المنتخب المصري أمام المنتخب السعودي!!!!.

خلاصة القول: إن الأزمة في مصر ليست أزمة الضعف أو الانهيار أمام الفاشية والطغيان وقوى البطش، بقدر ما هي أزمة وعي شعبي ومفاهيم فاسدة خاطئة متقيحة ضاربة في جذور المجتمع يجب علاجه منها والقضاء عليها من خلال خطوة أولية وهى مواجهة التابوه الأسطوري للمؤسسة العسكرية، ووضعها في مكانها الطبيعي ضمن مؤسسات الدولة وليس في مقدمتها.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه