لماذا يتناقض الموقف الأمريكي والألماني في قضية خاشقجي؟

لم تتفق مواقف أكثر الدول الأوربية مع الموقف الأمريكي في قضية خاشقجي، فدول أوربية كثيرة أوقفت صادرات أسلحتها إلى السعودية، وحظرت أسماء المتورطين في القضية من دخول أراضيها، وما فتئت تطالب السعودية بكشف الحقيقة كاملة، ومن هو الذي يقف وراء إصدار أمر قتل الصحفي السعودي؟
على الجانب الآخر اتخذ الرئيس الأمريكي ترمب موقفا مختلفا، فهو مازال يحاول الدفاع عن الأمير محمد بن سلمان في القضية، رغم تقارير وكالة المخابرات الأمريكية التي أشارت إلى دوره المحتمل فيها، ناهيك عن إجماع غالبية المحللين السياسيين والمراقبين على أن أمر القتل لايمكن أن يصدر إلا بعلم من الأمير نفسه.
هذا التأييد الغامض والتصريحات الملتفة لترمب، لم تعجب دولا كثيرة تريد للقيم أن تنتصر على تجارة المال وخلطها بالسياسة.
 ألمانيا كان لها قرار حازم وحاسم بعد اطلاع مخابراتها على التسجيلات التركية التي كشفت أسرارا خطيرة تتعلق بمقتل الصحفي السعودي، فجاء القرار الفوري بوقف صادرات الأسلحة إلى السعودية، وتأجيلها إلى أجل غير مسمي، ثم أتبعت ذلك بقرار حظرت فيه دخول 18 متهما سعوديا إلى الأراضي الألمانية.

الصراع

ثمة صراع بين القيم الأخلاقية والمال كشفته بلا أدني مواربة قضية خاشقجي، فالديمقراطيات الغربية تقوم على مبادئ حقوق الإنسان، واحترام حريات الرأي، وعدم الانتصار للقتلة والمجرمين، لهذا دب الصراع بين من يتمسكون بالقيم رغم الأضرار الاقتصادية، وبين من يفضلون علاقات المال، لقد قالها ترامب صريحة في أكثر من مرة وفي أكثر من مناسبةـ أنه متمسك بالحليف السعودي بسبب صفقات الأسلحة والمليارات التي ستجنيها أمريكا من تلك الصفقات، وهذا أمر مهم لأمريكا على حد تعبيره!  
لم تستفز الجريمة الرئيس الأمريكي وظل يراوغ ويماطل في كشف الحقيقية، ومن اغرب تعليقاته ردا على سؤال مباشرـ هل كان الأميرعلى علم بما يحدث في قنصلية بلاده في تركيا؟ ـ قال ربما كان يعلم أو لم يكن يعلم! في حين أن ردة الفعل الألمانية كانت سريعة جدا، لقد طالب رئيس لجنة السياسات الخارجية بالبرلمان الألماني إلى سلوك نهج أكثر تشدد في العلاقات مع المملكة السعودية حتى لو تطلب الأمر طرد دبلوماسيين سعوديين من ألمانيا، أما الحزب الاشتراكي الديمقراطي فقد طالب بمراجعة شاملة للعلاقات، وحزب الخضر طالب بالوقف التام لمبيعات الأسلحة. 

الانضباط الألماني

الفرق واضح وصريح بين سياسة ميركل  وسياسة ترمب، فألمانيا  منضبطة في التزاماتها السياسية والأخلاقية، وفي تعاملاتها مع الدول،  بل اكثر من ذلك هي ملتزمة بانتهاج سياسة خاصة ترتبط بمصالحها في منطقة الشرق الأوسط ، والتي تسميها سياسة “إطفاء الحرائق ” ، فهي ترتبط بمصالح تجارية متميزة مع دول الخليج، ويهمها الاستقرار في المنطقة،  وهي غير راضية عن حرب اليمن، والنزاعات الخليجية، وحصار قطر، وأزمة اللاجئين، وكان وزير الخارجية الألماني السابق زيغمار غابريل قد انتقد اكثر من مرة الدور السعودي في المنطقة  وطالب بوقفه ،  ووصفة بالدور المغامر، ما أغضب السعوديين حتي أنهم سحبوا سفيرهم لمدة عام تقريبا احتجاجا علي الانتقادات الألمانية.
المنطقة ينتظرها مصير أسود في حالة استمرار سياسات الأمير الشاب هكذا اتفقت معظم تعليقات الصحف الألمانية بعد مقتل خاشقجي، فالسعودية صنفت في عهد محمد بن سلمان  كثاني اكبر الدول المستوردة للأسلحة في العالم بعد الهند، والثالثة في قائمة الدول التي تقتني السلاح الألماني ـ فلماذا كل هذه الأسلحة؟ وماذا يريد ابن سلمان أن يفعل بها؟
لم يحل تكديس الأسلحة السعودية أي مشكلة، بل على العكس من ذلك، استمر اشتعال الأزمات، واستمرت النزاعات، وتفاقمت أزمة اليمن وتحولت من حرب طاحنة إلى أزمة إنسانية مريعة، وأصبح يموت كل يوم أمام أعين العالم مئات الأطفال جوعا، وانتشرت الأوبئة، والأمراض القاتلة في المنطقة، كما أن حصار قطر استمر، واستمرت استمالة الدول بالضغط عليها في الوقوف في حلف العداء الظاهر لأيران وحزب الله، رغم أن ذلك العداء المعلن لم يحقق أي هدف. 
مفهوم التاجر
 لم تكن تلك السياسات تستمر إلا بمؤازرة ترامب وصهره كوشنر المرتبط بعلاقات مالية غامضة مع السعودية، فالرئيس ترمب يدير سياسات البيت الأبيض بمفهوم التاجر، الصفقات والأرباح هي هاجسه الأول، أما الأخلاق والسياسة فهي متوقفة في عهده حتى إشعار آخر، فمنذ أن وقع عقد 110 مليار يورو أثناء زيارته للسعودية وهو لا يتوقف عن الحديث عن المال السعودي وكيف نجح في جلبه إلى الولايات المتحدة، لهذا هو غير عابئ على الإطلاق بأي دور أخلاقي في قضية خاشقجي، فواضح جدا أنه قايض الدور الأخلاقي والقيم الأمريكية بالمال.
لم تكن علاقة ألمانيا وأمريكا متوترة في أي وقت كما هي الآن في عهد ترمب، فألمانيا تعرضت لابتزاز الرئيس الأمريكي أكثر من مرة، وهو دائم الاتهام لها بانها تدفع اقل مما يجب لحلف شمال الأطلسي وطالبها بزيادة حصتها.
إذن المال يبقي دائما هو محرك ترمب الأول في علاقاته مع الدول، وهذا هو الأمر الذي فطنت له المستشارة الألمانية منذ وقت طويل، وطالبت ترمب منذ وقت انتخابه إلى التزامه بالقيم الغربية الأوربية بعد أن أثار الجدل إبان حملته الانتخابية. 

جيش أوربي

هذا الاختلاف الكبير في السياسة الأمريكية الأوربية دعا الأوربيين إلى محاولة الاعتماد على أنفسهم أكثر من أي وقت مضي، فهم يسعون الآن من اجل تأسيس جيش أوربي موحد رغم اعتراضات الإدارة الأمريكية، وتوحيد السياسات الأوربية حتى تصبح أوربا أكثر نشاطا في لعب أدوار سياسية على الساحة الدولية، بعد ما ألحقت السياسة الترمبية قصيرة النظر أضرارا عديدة بمصالح الاتحاد الأوربي.
قد لايكون غريبا أن يقول الناس الآن وبوضوح أن مقتل الصحفي جمال خاشقجي سيكون له أثاراً جد مهمة على حدوث تغيرات سياسية في منطقة الشرق الأوسط، والعالم كله، بعد أن كشف كثير من أمور المال والسياسة، وضياع حقوق الأفراد مقابل الصفقات والأرباح التجارية!

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه