لماذا لم يقم المصريون بثورة أخرى؟!

خذلت النخبة الشعب بصراعهم على السلطة واستعجالهم النتائج.. خذلوه لأنهم لم يكونواعلى مستوى الثورة.

للشعب في مصر طبيعته  الخاصة قد لا تجدها في دول كثيرة ربما تجد مثلها في أرض الحضارات الإنسانية كسوريا والعراق واليمن، والهند والصين، وتلاحظ مشتركا كبيرا بين طبيعة الشعوب في هذه الدول

في أرض الحضارة وخاصة حضارة الزراعة والاستقرار تستطيع أن تعرف ملامح الإنسان المستقر لدرجة الاستفزاز، والبناء لدرجة الذهول!

ومن هنا فعلى الجميع أن يتأمل علاقة المصري بالسلطة عبر التاريخ؛ فالمصري بدأ أول استقرار على ضفاف النيل، وعلمته الزراعة الصبر والحكمة كما تقول أمثالنا الشعبية فلا يضحي بهذه السرعة ولا بهذا الاستقرار بسهولة.. فعادة هو ينتظر طويلا حتى يرى ثمرة جهده في الزراعة وهو من ينتظر طويلا أيضا حتى يرى ثمرة تربيته في ابنه الذي يسعى دائما ليكون في حال أفضل من حاله 

أما علاقته مع الحاكم فهي أغرب مما يتصور البشر في دول أخرى وحضارات أخرى، فعندما ينال حاكم حب الشعب في مصر صنع له المعجزات، وبنى له الأهرامات، وهندسها بكل العلوم، وشيد معه السدود والمصانع، ويقف كتفا لكتف معه حين ينكسر أو ينهزم، ولعل الوصول ببعض الحكام إلى مكانة الآلهة يبين لنا طبيعية علاقة هذا الشعب الذي عرف الاستقرار منذ بدء التاريخ بل يقال إن مصر ولدت وولد بعدها التاريخ، وتبدو هذه مبالغة ونوعا من الزهو التاريخي الذي قد لا يفيد الآن

أما إذا فقد الشعب المصري ثقته في حاكمه فيدير له ظهره ويغلق قلبه وعندما يجد فرصة للتعبير عن غضبه يمزق صوره ويلقي بها أرضا ويدوسها بالأقدام: حدث هذا مع السادات في يناير ١٩٧٧ وحدث مع مبارك في يناير ٢٠١١، وحدث أيضا مع السيسي في سبتمبر ٢٠١٩

 داس الشعب بالأحذية على صور من يعتقدون أنهم أصحاب أفضال عليه، ولكنهم في الحقيقة سارقو أحلامه، وحين يدير الشعب ظهره للحاكم أيضا يستعير من أمثاله الشعبية المثل القائل (اصبر على جارك السو (السيء) ليرحل أو تيجي له مصيبة)

بناء الدولة مهمة المصريين الابدية

إن أهم إنجاز يحسب للمصريين في التاريخ هو بناء الدولة، والشعب المصري لا يستطيع أن يقدم على هدم الدولة إلا إذا رأى أمامه ملامح الدولة الجديدة التي يذهب إليها أو سوف يبنيها وهذا يوضح لنا لماذا كان يناير 2011 ولم يكن يناير 2020  ويقال مجازا إنه إذا وضعت الظروف عشرة مصريين في مكان ما وتحت ظروف غير طبيعية فإنهم يكونون دولة

 وقد استطاع المبدع الذي فقدناه هذا الأسبوع لينين الرملي أن يقدم هذه الفكرة في فيلمه السينمائي مع المخرج صلاح أبوسيف بعنوان (البداية) أن يقدم لنا علاقة المصريين ببناء الدولة، والوصول بها حتى اختيار الحاكم

فالفيلم يبدأ بطائرة مفقودة تصل إلى منطقة نائية عليها مجموعة من المصريين وعندما يفقدون الأمل في العودة إلى منازلهم وفي ساعات قليلة يكونون مجموعات، لكل منهم وظيفته الخاصة في المكان مكونين شكل الدولة ثم يقومون باختيار الحاكم؟

هكذا تقوم دولة لا تدري كم يطول عمرها وتسير بكل ما في الدول من صراعات القوة والنفوذ والمال والفكر، والإغراء والتجسس؛ إنها دولة كاملة الملامح

هكذا المصري دائما ولكن حين تقترب الأحداث من النهاية وتتصاعد الأمور بتسلط الحاكم يطاردونه ويحاولون القبض عليه، وعندما تأتي طائرة لإنقاذهم حيث العودة إلى حياة أفضل يشعلون النار في الواحة وما فيها ويتركون الحاكم وحيدا يستمتع بكل ما فيها بعد الخراب 

إنها الفكرة الثانية التي التقطها لينين الرملي عن المصريين

لماذا لم يلب المصريون دعوة الخروج الأخيرة؟

لكي نصل إلى إجابة هذا السؤال علينا أن نحاول الإجابة على سؤال آخر هو: لماذا خرج المصريون في يناير 2011 ولم يخرجوا في يناير 2020؟؟

يناير 2011..قبله كانت هناك حملة لحمدين صباحي للترشح أمام مبارك أو جمال مبارك في الانتخابات المتوقعة في منتصف 2011.. ثم عاد البرادعي إلى مصر حاملا شعار التغيير.. وكانت هناك جماعة الإخوان المسلمين بما حققته من نجاحات في انتخابات 2005و2010وبما حققته من تواصل وخدمات اجتماعية واقتصادية في أحياء ومدن وقرى كثيرة جدا 

وبعد تزوير الانتخابات في ٢٠١٠ كان هناك البرلمان الموازي والذي ضم كل التيارات السياسية المعارضة لمبارك.. وقبل هذا كانت هناك حركات التغيير الكثيرة ومنها حركة ٦ أبريل وما حدث في ٢٠٠٨ في المحلة الكبرى من يوم غضب وإسقاط صور مبارك، وكانت الحركة الأشمل: الحركة المصرية من أجل التغيير (كفاية) والتي رفعت شعار: (لا للتمديد لا للتوريث)

كل هذا كان يعطي للشعب أملا في التغيير وفي وجود بدائل لمبارك، ويمكن أن يختار منهم لهذا كان النزول العظيم للشعب ٢٨ يناير٢٠١١   

عامان لم يخذلنا الشعب فلماذا خذلتموه؟؟

لم يخذل الشعب النخبة السياسية على مدي سنتين من سنوات الثورة.. اختار الإخوان المسلمين في أول انتخابات برلمانية حينما شعر أنهم يمكن أن يكونوا بديلا أفضل لمبارك، وحاولوا أن يكون هناك توازن في السلطة مع الرئاسة فأعطوا لحمدين صباحي أصواتا لم نكن نحلم بها نحن شركاء حمدين في مشروعه

وعندما كانت المواجهة بين الإخوان ودولة مبارك اختاروا أن تكون تجربة الإخوان كاملة فأعطوا محمد مرسي كرسي الرئاسة ليكون للإخوان المجالس الشعبية والرئاسة 

وخلال عامين نزل الشعب المصري في أيام كثيرة: في مارس وأبريل ومايو ويوليو ونوفمبر (محمد محمود الأولى)، وفي ديسمبر (مجلس الوزراء) 2011، وفي يناير ومارس ومايو ويونيو 2012

كل هذه الدعوات كانت من قوى ثورية وبعدها في نوفمبر وديسمبر 2012 (الاتحادية) حتى 30 يونيو 2013 لم يخذل الشعب النخبة والثوار

الثوار والنخبة هما من خذلوا الشعب

خذلت النخبة الشعب بصراعهم على السلطة واستعجالهم النتائج.. خذلوه بأنهم كانوا ليسوا على مستوى الثورة بل إن طموحاتهم كانت أقل كثيرا من طموح الشعب خذلوا بالفرقة والأنانية والانتهازية خذلوه حين ارتموا في مؤسسات مبارك السياسية والأمنية.. خذلوه حينما أراد كل فريق أن يكون بديلا لمبارك على رأس دولة مبارك

الخذلان الأكبر في سبتمبر 2019

لقد وقفت كل النخبة والطليعة والثوار في سبتمبر الماضي يتفرجون على الشعب الذي نزل وأسقط صور السيسي، وداس عليها بالأقدام؛ ولكنه لم يجد أحدا يقود، وكان يبحث عن البديل ولم يجده، وطاف الشوارع فلم يجد دليلا، إذ اختفت كل البدائل التي كانت موجودة في يناير 2011، ولم تعد موجودة ولا حتى بقاياها؛ بل إن الطامة الكبرى كانت في تلك البقايا المهلهلة التي وقفت من بعيد تراقب الشعب وكأن الشعب سيسقط لهم نظاما بكل هذه المؤسسات، ويذهب إليهم معتذرا ويقول لهم: هذه هي السلطة خذوها (وربما كانوا طلبوا تفويضا!)

عندما أدرك الشعب أنه لا بديل لما فيه عاد أدراجه إلى المنازل، ولم يخرج في الدعوة التي أطلقها محمد علي في يناير، وليس لذلك علاقة بمحمد على ولا علاقة بالشعب بل إن السبب الأكبر هو غياب البديل الذي كان موجودا في يناير 2011 ولم يعد موجودا الآن

فهذا الشعب كما يقول الشاعر: “أنا الشعب ماشي وعارف طريقي)، أما نخبته وطليعته وثواره فقد تاهوا ولم يعد هناك من يعرف طريقه بينهم وتظل دائما المقولة الأصدق التي يتم تداولها الأن بين بقايا المؤمنين الحقيقيين بالثورة: أن للشعب المصري مواقيته

ولعلنا نتمناها قريبا خلاصا من واقع مصري وعربي مهين للكرامة المصرية والعربية، ففي صحو الشعب المصري صحو لأمة العرب والإسلام

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه