لماذا فشلت الحركة الإسلامية في إدارة المشهد ؟

فحين تنتقد الحركة الإسلامية فأنت في نظرهم تنتقد الدين ذاته.

إن المتأمل في كتاب الله وسيرة أنبيائه وسنن الله في الخلق لا يتعجب من تلك الحالة المتردية التي تمر بها الأمة الإسلامية، فكل الأسباب والمقدمات تؤدي حتما إلى تلك النتيجة. فللنصر والنجاح أسباب وعوامل عديدة يجب الأخذ بها قبل السير في ذلك المعترك من التغيير المطلوب علي المستوي الكلي للأمة وعلي المستوي الفردي كشعوب ومجتمعات. وفي القرنين الأخيرين تولت الحركة الإسلامية مهمة التغيير بدءا من نهاية سقوط دولة الخلافة العثمانية ومرورا بمقاومة الاستعمار الأوربي حتى إخراجه ظاهريا من بلادنا بعدما ضمن تسليم السلطة لعملاء صنعهم علي يده ليضمن ولاء تلك البلاد لتظل السوق الاستهلاكية والمورد الخام لكل ما يحتاجه الغرب لاستمرار بقاء هيمنته علي العالم العربي لأطول فترة ممكنة .

قراءة الواقع

والمسألة هنا ليست اتهاما للحركة الإسلامية أو دفاعا عنها بقدر ما هو قراءة لواقع  كان من الممكن أن يتبدل إذا راعت الحركة في مسيرتها بعض الأمور التي لا غني لأي حركة ريادية ترنو للتغيير الجذري لمجتمعها. وإحقاقا لشأن هام، وهو أنه لم تستطع حركة أخري أن تغطي ذلك الغياب وتلك الإخفاقات المتتالية لتتضاعف المسئولية على الحركات الإسلامية باعتبارها الأمل الوحيد الباقي لهذه الأمة في الخروج من كبوتها الحضارية العارضة .

ويعد البحث في أسباب إخفاق الحركة الإسلامية لتحقيق أهدافها المنشودة والتي وضعت مسبقا من روادها ومسئوليها بدءا من الشيخ محمد عبده ومرورا بمحمد رشيد رضا وحسن البنا في مصر وبالمزامنة مع الحركات الاسلامية المنتشرة في ربوع العالم الاسلامي مسألة شائكة، وذلك لسبب هام، ومن الضروري كشفه ومواجهته ، وهو أن معظم أفراد تلك الحركات وبعض قادتها يضعون أنفسهم بدلا من كلمة ” الإسلام “. فحين تنتقد الحركة الإسلامية فأنت في نظرهم تنتقد الدين ذاته ، ولذلك فالنقد البناء والنصح الخالص مرفوض جملة باعتبار أن قرارات تلك التنظيمات وقادتها أمرا مقدسا غير قابل للنقد أو التجريح.

ومن المفارقات العجيبة أنه وعلي مدي قرنين من الزمان نجد نفس النهج بإصرار عليه عجيب والذي بالضرورة يوصل لنفس النتائج، غير أن العقول التي توقف بها الزمن عند مرحلة معينة تأبي التراجع أو المراجعة بتلك المكانة المقدسة التي تكتسبها داخل الحركة دون الإفصاح عنها صراحة أو الجهر بها .

الخلط بين الدين والحركة

 وعلي المستوي العام لا أجد حركة من تلك الحركات نجت من تلك النظرة المتداخلة والخلط التام بين الحركة الإسلامية كوسيلة بشرية للعمل بالدين وتوظيفه في إنقاذ الأمة والعالم من بعدها والإسلام ذاته الذي هو مصدر الهداية ومنهج السير ومناط التكليف، وانبثق من تلك النظرة المقدسة للتنظيمات عدة أخطاء حادت بها عن استحقاق النصر والانتقال بالأمة من حالة التيه إلي مرحلة النهوض والمسؤولية بعدما فشلت في تقديم النموذج الحركي الإسلامي المتكامل للفرد المسلم والمجتمع المسلم والمسؤول المسلم فجرت عليها السنن الإلهية وتأخر النصر عقابا من حيث حسبه البعض ابتلاء ما قبل التمكين .

تجاوز السنن الإلهية :

حين يشتد البلاء بالناس يعلقون آمالهم في الخلاص مما يعتريهم من ضنك وسوء في شخص أو هيئة يحسبون  أنه بسقوطه أو بزوالها فقد زال البلاء دون بذل الجهد اللازم للخلاص من ذلك البلاء أو تجاوز تلك المحن .

وهم في ذلك لا يعلمون أن رايات الباطل والطاغوت والظلم والاستبداد قد تسقط دون أن يعقبها بالضرورة ارتفاع رايات الحق والعدل والحرية، وذلك ليس لسبب سوي أن الباطل قد تجاوز في مداه حد البقاء واستنفذ أسباب استمراره ، في الوقت الذي لم يستكمل الحق أدواته فيستبدل الباطل بباطل آخر ربما يكون أقل حدة أو أكثر حتى يحقق القائمون علي التغيير سنن الله كاملة ، تلك السنن التي لا ولم تحاب أحدا علي مر الزمان

فالمظلومية وحدها ليست سببا كافيا لزوال الظلم عن المظلوم حتى يبذل المظلوم كافة الأسباب التي يملكها ويتحرك فيها بكل طاقته لإزالة ذلك الظلم ، ووقتها فقط تتدخل العناية الإلهية لمحق الظالم بظلمه ، فالرمي يجب أن يبدأ أولا بيد بشرية ” وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى”.

فالرمي يجب أن يبدأ أولا من الأرض لتقوم السماء بتسديد تلك الرمية ، وتلك بعض سنن الله التي وضعها لكافة الخلق. تلك السنن التي لا تتبدل ولا تتغير والتي قال عنها رب العزة ” فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا “، ويقول ابن كثير في قوله تعالي ” سنة الله في الذين خلوا من قبل ” أي هذا حكم الله في الأنبياء من قبله .

وتجاوز السنن الذي وقعت فيه الحركة الإسلامية العاملة ليس في مجرد عدم الأخذ بها ، بل زاد علي ذلك عدم فهمها ، ونشأ بدلا من المعرفة بسنن الله علم آخر قدمه علماء الحركة بفهم مغلوط وهو ” الابتلاء ” وكأن مراد الله عز وجل اتفق علي أن يكون في صالح الكافرين والمنافقين والخونة والمستبدين فأصبحت الهزيمة من نصيب الطائفة المؤمنة وحدها علي طول الطريق ، وكلما اشتد القتل والسجن والبأس بهم أمعنوا في أن ذلك ابتلاء يعقبه النصر ، بينما هم لم يقدموا في الأصل للنصر أسبابا كافية.

فكان من أهم أسباب فشل تلك الحركة هو الجهل بالسنن الإلهية كاملة واعتبار الابتلاء مدعاة للفخر وأصبح التباهي بين تلك الحركات بعدد ما قدمت من تضحيات في الأرواح والحريات.

تضارب الفكر

والفكرة هي التوجه العام لأي حركة أو تنظيم وهي المحددة للهدف والوسيلة وبدونها تسير الحركة كسفينة بغير ربان أو بغير دفة توجهها في الاتجاه المراد، وآفة التنظيمات الكبيرة التي تعتمد علي نظرية الطاعة المطلقة للقائد وإضفاء نوع من القدسية علي شخص المسؤول تصطدم بشكل ما مع أصحاب الفكر خاصة المجددين منهم والمبدعين والمبتكرين والذين يرفضون عادة الخضوع الكامل لمبدأ الطاعة الأعمي والذي هو أساس من أسس التنظيمات البشرية التي تواجه عدوا قويا، حفاظا علي هيكلتها وكيانها الداخلي من أي اختراق. غير أن صاحب الفكر يرفض عادة إلا أن يحكم عقله ويعمل فكره ولا يقبل تنفيذ إلا ما يقتنع به شخصيا ، فيضيق  التنظيم أو الحركة بصاحب الفكر وربما يصل الأمر لتبادل الاتهامات والتخوين بل والانقلاب علي التنظيم أو فصل التنظيم للمفكر ، ومن هنا يحدث شقاق كبير بين الفكر والحركة التي أصبحت عامل طرد لأصحاب العقول المستنيرة وأغلقت أبوابها علي أهل الثقة الذين لا يجادلون ولا يناقشون ولا يعترضون إلا من رحم ربك ، وكانت النتيجة وقوع الحركة الاسلامية المعاصرة في مشكلتين كبيرتين:

الأولي : التوجس والعداء الواضح مع المبدعين خاصة من الشباب واعتبارهم عبء علي الحركة.

الثانية : العزلة الفكرية عن المجتمع الداخلي والخارجي مما أثار حالة من الريبة لدي المتابع العربي والغربي علي السواء ، مما أدي إلى وقوف الشعوب في حالة من الحيادية في الهجمة العالمية الشرسة التي تعرض لها الإسلاميون في الفترة الحالية رغم الظلم البين ورغم شدة الضربة ، لكن حالة الانعزالية تلك وضعت حاجزا مسبقا بينها وبين مواطنيها.

الخلط بين الغاية والوسيلة

وقعت الحركة الإسلامية مؤخرا خاصة بعد الربيع العربي والدخول في حالة صراع سياسي ووجودي مع الأنظمة العربية العميلة في حالة من الخلط بين تحديد غايتها العملية ووسائلها المعلنة لتنفيذ تلك الغاية ، فعلي سبيل المثال قضية الحكم حتي الآن لم تتحدد مكانتها عندها، هل هو غاية في حد ذاته يحرص عليه حد التضحية بالأرواح في سبيل الحصول عليه أو الحفاظ علي كرسيه ؟ ومن ثم استثماره في تحقيق الغايات والمبادئ الكبري مثل مبدأ العدالة والحرية وتحكيم الشريعة الربانية في المقام الأول ؟ أم هو في حقيقته وسيلة لغاية أكبر، يمكن أن تتبدل تلك الوسيلة بأخري بأن تتخذ الحركة الإسلامية مثلا جانب الرقيب علي الحاكم ومحاسبته حين يقصر في حق من حقوق الشعوب أو يقصر في غاية من غايات الشريعة ؟ حتي الآن لم تتضح تلك الرؤية في عقول ذويها ، ولا يستطيع أن يتفق اثنان من المسؤولين عن الحركة في تقديم رؤية واضحة تجاه ذلك الأمر مما أثار التباسا لدي الشعوب فاتخذت موقف المتوجس وآثرت الانتظار لترى لمن الغلبة ولم تقرر بعد إلى جانب من يجب أن تكون.

وهناك أسباب أخري لفشل الحركة الاسلإمية في إدارة المرحلة لا تتسع مقالة لرصدها؛ لكني أذكر منها مبدأً هاما لم تستطع التيارات الإسلامية أن تقدم فيه النموذج الجيد الذي تحتذي به الشعوب والذي يطمئن تلك الشعوب علي مستقبلها مع الإسلاميين وهو مبدأ تداول السلطة داخل التنظيمات ، فنجد أن المسؤول والأمير والقائد غير قابل للتغيير إلا إذا تنازل مختارا، وذلك كما سبق بنا للقداسة التي يضفيها التنظيم عليى مسئوليه وقادته ، كذلك الاختلاف الداخلي بين التنظيمات الإسلامية عامة وعدم قدرتهم علي الوحدة في مواجهة استبداد الأنظمة وضع الحركة الاسلامية في حالة من التشرذم والضعف الداخلي حرص عليها عدوها وأذكاها ليظل الوضع القائم علي ما هو عليه ، فهل من عقول  مطلعة تستوعب تلك النقاط وغيرها وتؤثر مصلحة الأمة وتراعي حالتها المتردية وتقبل مبدأ المراجعة لنبدأ من جديد؟

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه