لماذا تركتم تركيا تُغّير الموازين في ليبيا؟!

المعارك التي تدور على عدة جبهات تُغير فعلياً معادلة الحرب، وتقلب موازينها، وتكسر حصار طرابلس، وتُوطد أقدام حكومة السراج، وتقوي مركزها العسكري.

 

التطورات العسكرية الأخيرة في الاقتتال الليبي معروفة، ففي هذه الجولة من معركة طرابلس تندحر قوات الجنرال خليفة حفتر، وتفقد مواقع استراتيجية مهمة مثل قاعدة (الوطية) الجوية، وقد تكون خسارة مدينة (ترهونة) ذات الأهمية العسكرية لحملته المنتكسة مسألة وقت، وفي المقابل تتقدم قوات حكومة الوفاق الوطني برئاسة فائز السراج القائد السياسي المدني.

المعارك التي تدور على عدة جبهات تُغير فعلياً معادلة الحرب، وتقلب موازينها، وتكسر حصار طرابلس، وتُوطد أقدام حكومة السراج، وتقوي مركزها العسكري ثم التفاوضي في المستقبل، وتعري حفتر، وتدلل على أن استمرار الرهان عليه خسارة ماثلة للعيان، وتوريط للعواصم العربية والأجنبية الداعمة له في حرب عدمية مدمرة لليبيا، وقاتلة لأحلام مواطنيها في الاستقرار والسلام الاجتماعي والعيش الكريم.

وحتى النظر إليه من جهات ليبية ودولية باعتباره قادراً على بسط النفوذ على كامل التراب الليبي، لإنهاء الانقسام، وإخراج البلاد من الفوضى والأزمة، ولو على حساب تأجيل الحل الديمقراطي، لم يكن تقديراً موفقاً، فالإخفاق السياسي والعسكري ملازمان له، ذلك أن حصاره للعاصمة طرابلس تجاوز عاماً كاملاً دون أي تقدم (بدأ 4 أبريل 2019)، رغم أنه مدعوم جيداً من الخارج بالمال والسلاح والتدريب والمقاتلين والإسناد السياسي.

كان بمقدور الجنرال أن يكون مختلفاً في إدارته للصراع بأن يُظهر وجهاً ديمقراطياً، وترحيباً بالحريات، وبأنه لا عودة إلى الديكتاتورية، وأن هدف التحرك العسكري ليس كسر القوى المنافسة القلقة من تركيبته الشخصية والنفسية وعقليته الأمنية، إنما لمحاصرة الجماعات المتطرفة فعلياً، وقطع الطريق على تنظيمات إرهابية قادمة من الخارج، وتحريك السلام، والدفع باتجاه جلوس كل المتصارعين على الطاولة، بما فيهم الكتائب المسلحة التي تقبل بالانخراط في العملية السياسية والتخلي عن سلاحها، للحوار والتفاوض لإنجاز مشروع الحل التوافقي الوطني المرضي للجميع.

الفرص الضائعة:

 وقد توفرت فرص عديدة لإنجاز تسويات سياسية سلمية أبرزها اتفاق الصخيرات بالمغرب 17 ديسمبر 2015، لكنه تمرد عليه، ومؤخراً أسقطه، وفوض نفسه لإدارة ليبيا في أحلام يقظة، وجاءت فرصة أخرى قبل هجومه على العاصمة بأيام في اجتماع جامع لكل القوى الليبية وقام بإفشاله عندما تحرك نحو طرابلس، وكانت هناك فرص بعد حصار العاصمة في اجتماعات موسكو وبرلين وجنيف هذا العام، بجانب دعوات عديدة من الأمم المتحدة بإيقاف القتال والتوجه للحل السياسي، لكنه العناد المدمر، وسراب النصر العسكري.

المبعوث الأممي السابق في ليبيا غسان سلامة كان عميقاً في وصف حفتر عندما قال إنه ليس أبراهام لينكولن، وليس بذلك الديمقراطي الكبير، وأن مشروعه السياسي لا يناسب قطاعاً لا بأس به من الشعب الليبي، هذا القطاع هو معظم الليبيين، فالرئيس الأمريكي لينكولن قاد بلاده خلال الحرب الأهلية في القرن التاسع عشر(1861-1865)، وحافظ عليها، وألغى العبودية، وكان ديمقراطياً حقيقياً، ودفع حياته ثمناً لمواقفه الوطنية النبيلة (15 أبريل 1865)، ولهذا خلد التاريخ اسمه، أما الجنرال الليبي فإنه يحكم المناطق التي يسيطر عليها بقبضة من حديد، وهذا ما يُفزع كثير من الليبيين من ديكتاتورية عسكرية قادمة، ويجعلهم يقاومون هذا المشروع، ويسقطون مرتين خطته لدخول العاصمة، وإعلان نفسه زعيماً لليبيا من فوق الدبابة.

ما هى كلمة السر في التطورات الأخيرة، والتي ليست في صالح حفتر، ورعاته؟

الحقيقة السر، ليس سراً، وهذه الميزة والدرس المستفاد لمن أراد أن يكون مرنا وذكياً ويفهم متخلياً عن المكابرة، تركيا فرضت نفسها وصارت رقماً مهماً في المعادلة الليبية على الأرض حالياً، وفي تغيير الأوضاع ليس من النقيض إلى النقيض، إنما في وضع حاجز صلب أمام حلم الجنرال بإسقاط العاصمة وإكمال السيطرة على الساحل الغربي ومناطقه، بل وجب عليه التفكير في كيفية حماية مواقعه شرقاً وسبها جنوباً، فقد تخطط قوات الوفاق، إذا سيطرت على (ترهونة) في تطوير القتال مستفيدة من النجاحات الأخيرة، ومن امتلاكها قاعدة عسكرية استراتيجية (الوطية) تجعل يديها طويلتين في الوصول أبعد مما كانت تحلم يوماً، ومستفيدة أيضاً من الدعم العسكري التركي ومنظومات السلاح المتطورة من طائرات مسيرة مسلحة ومن أنظمة دفاعات جوية حديثة وتدريب واستشارات عسكرية وتوافد عناصر مقاتلة لدعم صفوفها.

الوجود التركي:

من الضروري النظر إلى أن الفريق العربي والأجنبي الداعم للجنرال حفتر كبير وقوي وسخي وهو يشمل: مصر والسعودية والإمارات والأردن وفرنسا وروسيا واليونان وقبرص، مقابل دولتين فقط تدعمان السراج هما تركيا وقطر، أما أمريكا فهى تتأرجح بين الاثنين، وإيطاليا تنتهج طريقاً وسطاً، ورغم هذا الإسناد الواسع لكن حفتر يعجز عن إكمال المهمة في باقي التراب الليبي.

والوجود التركي في ليبيا يجب النظر إليه والتدقيق فيه ومحاولة استيعاب كيف ولماذا حصل رغم تنديد المتدخلين به، واعتبار بعضهم أنه احتلال؟

ذهاب الأتراك إلى ليبيا كان واضحاً، وفي رابعة النهار، وبعبارات صريحة، قالوا: نحن ذاهبون لدعم الحكومة الشرعية في طرابلس بناء على طلبها، ووفقاً لاتفاقيات عسكرية وأمنية دفاعية مبرمة معها، ويبدو أن هناك إرادة دولية ما في تمرير الوجود التركي، أمريكية غالباً.

 وعندما تقرأ تصريحات أردوغان تجده يتحدث عن دحر حفتر، ودعم الحكومة الشرعية، وعندما تقرأ بيانات البلدان الداعمة للجنرال، لا تجدها تعكس مواقفها الصريحة، إنما فيها غموض والتفاف ومحاولة إخفاء الانحيازات  المعروفة، كأنها تمارس تقية سياسية.

ولهذا، منذ عقد أردوغان اتفاقا عسكريا مع حكومة الوفاق، وهو يتصرف أمام العالم كما يشاء، وينفذ أجندة الحماية الأمنية كما خطط لها، ويرسل السلاح والقوات والعناصر والخبراء العسكريين، ويتحدى الجميع، ويبشر بالأخبار السارة قبل أن تحدث بأسبوعين كما المح لذلك في 4 مايو الجاري، وتتحقق تلك الأخبار بسقوط قاعدة (الوطية) في أيدي حكومة الوفاق الإثنين 18 مايو، وينسج وزير دفاعه خلوصي أكار دون مواربة على نفس نغمة التصريحات قائلاً الأربعاء الماضي: إن  تدخل بلاده قلب الموازين في ليبيا عقب الخدمات الاستشارية والتدريبات التي قدمها الجيش التركي لقوات حكومة السراج.

ماذا فعل العرب والعجم أمام التبشير الأردوغاني بالأخبار السارة الآتية قريباً من ليبيا؟، وماذا قالوا رداً على تصريح خلوصي أكار؟. كلامهم مثل الغمام والضباب وعباراتهم مطاطة فضفاضة ، ليتهم صرحاء ويعلنون أنهم يحاربون معركة جنرال الشرق لتمكينه من حكم ليبيا بدل الازدواجية، وليتهم تدخلوا جادين لدفع الطرفين إلى التسوية السياسية بضمانات عربية ودولية قبل نزول التركي على شواطئ طرابلس وقيامه بتغيير الموازين العسكرية في ساحات المعركة.

تركيا دولة كبرى في إقليم الشرق الأوسط، قدراتها ضخمة، وهى ضمن أكبر عشرين اقتصاداً في العالم، وجيشها قوي، وهو في المرتبة الثانية بعد الجيش الأمريكي في حلف الناتو، ولها وجود  عسكري في سوريا وليبيا ولها قوات في العراق وعلى حدوده، وتواجه حزب العمال الكردستاني داخل تركيا وخارجها، أي إنها جاهزة للقيام بأدوار خارج حدودها بغض النظر عن تقييم هذه الأدوار ومدى إيجابياتها وسلبياتها، وما نقوله هنا تقرير واقع.

 والقرار التركي في الشأن الداخلي والخارجي ليس لحاكم فرد، أو حزب وحيد يتم مفاجأة الشعب به، إنما هو قرار منظومة يُتخذ بعد مناقشات طويلة لأن عواقب فشله وخيمة على الرئيس ونظامه وحكومته في ظل وجود برلمان متنوع التيارات السياسية، وأحزاب معارضة حرة، وإعلام مستقل، وانتخابات مبرمجة، وعملية ديمقراطية مستمرة، وهذا يجعل آلية صنع القرار مؤسسية، وهو ما لا يحصل في القرارات التي تصدر من عواصم كثيرة في المنطقة، لهذا تتورط في صراعات، وقد تساهم في إبقاء النيران مشتعلة، ولا تجيد اختيار الوقت والحلول المناسبة.

ما تريد:

لهذا تفعل تركيا ما تريده في ليبيا، وتتحرك في شرق المتوسط لحماية مصالحها الاقتصادية، ولا مانع أن تصف ذلك بالبلطجة، المهم أن تفرض نفسك وشروطك وتحقق أهدافك وتصون مصالحك، فأمريكا وروسيا وبريطانيا وفرنسا والصين، قوى العالم الكبرى، ليست دول الأخلاق الحميدة، ولا هى فرسان السماء، أو ملائكة الرحمة للبشرية المُعذّبة، إنهم يرتكبون السيئات والشرور كلها، السياسة العالمية ليست أخلاقية.

ليتدخل العرب كما يشاؤون في ليبيا، وسوريا، واليمن، والعراق، ولبنان، وفي كل بلد يعيش أزمة، لمنع تدخل الأجنبي وساطة أو احتلالاً، وحرمانه من الابتزاز وجني المصالح، ولأجل الحل السياسي الصحيح والمأمون، الذي يصب في صالح الشعوب، ولا يكرس حكم الفرد والنظام الأمني والعسكري، ويقف مع الديمقراطية، والحكم المدني، وتمكين الإرادة الشعبية، ساعتها لن يكون لأمريكا وروسيا وبريطانيا وفرنسا وإيران وتركيا، وغيرهم، أي قيمة أو دور أو وجود في بلاد العرب.

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه