لماذا تخاف الدول العربية من التجربة التركية؟!

 

قد تكون ردود الفعل التي صاحبت هجوم الرئيس اللبناني ميشال عون على الدولة العثمانية واصفا إياها بدولة احتلال، كافية تماما لإظهار جهل الرجل بالتاريخ والجغرافيا، وربما السياسة والدبلوماسية أيضا، إذا ما أخذناها في سياقها العام الذى جاء بالمناسبة من دون أسباب منطقية تدعوه للتفوه بمثل تلك التفاهات المغرضة التي لا تجلب سوى الخزي والعار لقائلها، بعدما كشف عن جهله علنا من دون مدارة ولا مواربة، ناهيك عما يمكن ان تثيره مثل تلك التصريحات داخل المجتمع اللبناني نفسه من فتنة وما تدفع إليه من حقد وكراهية بين مكوناته، وما يصاحب ذلك من ردود فعل عنيفة هو في غنى عنها.

ليست تلقائية ولم تكن زلة لسان

إلا أن المسألة لم تكن بتلك التلقائية التي يبدو عليها الأمر، كما لا يمكن اعتبارها مجرد زلة لسان لمسؤول نال كفايته من مختلف طوائف وشرائح الشعب اللبناني الواعية، فالرجل يمثل رمزا للدولة، وتقع على عاتقه مسؤولية الحفاظ على علاقات بلاده مع جيرانها ودول المنطقة والعالم أجمع إلى جانب حرصه على الوحدة الوطنية داخليا وعدم إثارة الفتنة، بل والعمل على وأد اية محاولة من شأنها إثارة النعرة الطائفية والمذهبية بين مكونات شعب عانى الأمرين من ذلك الامر، ودفع ثمنا باهظا له حتى أدرك أن التعايش السلمي وتقبل الآخر هما الطريق الوحيد لضمان أمن وسلامة الدولة اللبنانية، ذلك الوطن الذى يضم الجميع، فما بالنا والرئيس بنفسه هو من خرق الأعراف الدبلوماسية، وتجاهل قواعد اللعبة السياسة وسعى لإثارة النعرة العرقية والاثنية بين مجتمع يعيش على حد السيف كما يقولون .

حقيقة الأمر أن الرئيس اللبناني كان يدرك تماما ما يفعل، ويعي تأثير كل كلمة يتفوه بها، والهدف الذي يسعى إليه، فهو يرغب في إيصال رسالة لدول خليجية بعينها مجاملة لها ضمن إطار سياستها العدائية تجاه الدولة التركية، طلبا لرضاها، وطمعا في دعمها له ولمشروعه الخاص بالبقاء على رأس السلطة في بلاده، ظنا منه أنه مجرد تصريح صغير لن يلتفت إليه أحد سوى المعنيين برسالته لهم، المنتظرين تأييده لسياساتهم، الراغبين في حشد المزيد من المريدين والأتباع من دول المنطقة، السائرين على درب شق الصف العربي والإسلامي لصالح مخططات الكيان الصهيوني، لكنه لم يكن يدرك حجم بوابة الجحيم التي فتحها بنفسه على نفسه.

سلسلة تشويه تركيا ماضيا وحاضرا

وحقيقة الأمر أيضا أن ما فعله الرئيس اللبناني هو مجرد حلقة جديدة في سلسلة محاولات تشويه الدولة التركية، ماضيا وحاضرا، ولعل خير دليل على ذلك ما وقع خلال التظاهرات التي حدثت مؤخرا قرب الحدود السورية مع تركيا، والتي تم استغلالها من جانب مجموعات مدعومة من دول خليجية واستخبارات دولة غربية، حيث تم حرق صور الرئيس التركي وترديد الهتافات ضد تركيا وجيشها، رغم أن التظاهرة خرجت في الأساس من أجل التنديد بالقصف الهمجي الذي تشنه الطائرات الروسية والنظام السوري على مناطق ريف إدلب شمالي سوريا! أي أن تركيا لا علاقة لها بالأمر.

الرمز الذي أفزع الأنظمة الديكتاتورية

حالة الفزع التي تعيشها بعض الأنظمة العربية جراء تنامي حجم التأثير التركي الملهم في الشارع العربي دفعها لرصد مليارات الدولارات من أجل تشكيل جبهة معادية لتركيا مهمتها الأساسية تشويه صورة النظام وممارساته الديمقراطية، وقدرته على النجاح والتطور والتقدم وتخطي كافة الصعاب والمصاعب التي تهدف لعرقلته والحد من انطلاقته.

فتركيا أصبحت رمزا قياديا في العالم الإسلامي بفضل واقع تفاصيل يوميات مواطنيها الذي ترصده لنا المؤسسات الخيرية والمنظمات المدنية التركية العاملة بالخارج، وكذا الأفلام السينمائية والمسلسلات ووسائل الاعلام والسياحة وغيرها من وسائل التواصل بين الشعوب، التي تنقل صورة حية وواقعية للمجتمع بكل إيجابياتِه وسلبياته، وهي الصورة التي كان لها تأثيرا واضحا في الشارع العربي، الذي أصبح نمط الحياة التركية بالنسبة له هو النموذج الذي يطمح إليه ويسعى إلى تطبيقه في بلاده، والعيش ضمن مكوناته، متجاهلا تلك الصورة المقيتة التي يتم بثها عبر الإعلام الرسمي والموجه لدول التحالف ضد تركيا، الذي يحمل كما من الحقد والكراهية ويسعى إلى التشويه والتقليل من أهمية الإنجازات التي تحدث فيها بكافة السبل والطرق.

تركيا ونموذج الحداثة الإسلامية

 المواطنون العرب أصبحوا يرون في القيادة السياسية التركية الضمان الوحيد لحداثة إسلامية لا يجدونها في بلدانهم الأصلية، الأمر الذي جعل من الرئيس التركي عدوا لكافة النظم الديكتاتورية التي لاتزال تحكم العديد من الدول العربية، التي تراه منافسا حقيقيا لها على الساحة في بلدانها وعقر دارها، فالرجل يتمتع بشعبية لدى مواطنيها لا تملك هي الحد الأدنى منها، حتى ذهب البعض للحديث عن النسبة التي يمكن أن يحصل عليها أردوغان إذا ترشح في أية دولة عربية، تلك النسبة التي ربما تفوق ما حققه داخل المجتمع التركي نفسه.

 استلهام النموذج التركي في مخيلة المواطن العربي والرغبة الجارفة في إحداث التغيير المطلوب ضمن مكونات هذا النموذج، ترك أثرا عكسيا لدى القادة والنخب العربية، الذين اعتبروا أن تركيا بهذه الصورة تشكل تهديدا حقيقيا على وجودهم على رأس السلطة في بلدانهم، وخطرا داهما من شأنه ان يحول بينهم وبين استمرار هيمنتهم على مقدرات شعوب المنطقة على المدى الطويل.

مقاربة ظالمة بين انقلابيين ورئيس مدني

فإذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن معظم القادة العرب هم إما من الأسر الديكتاتورية الحاكمة رغما عن شعوبها،أو من الضباط الانقلابيين الذين يمارسون سياسات القمع وتكميم الأفواه ويعتمدون سياسات الإخفاء القسري والزج بالمعارضين داخل السجون والمعتقلات من دون اتهامات ولا محاكمات، بينما يبدو الرئيس التركي رجلا مدنيا جاء بطريق ديمقراطي، عبر صناديق الاقتراع، واستطاع خلال سنوات حكمه الأولى تحسين الوضع الاقتصادي لبلاده حتى أصبحت تحتل مكانة بارزة بين أقوى عشرين اقتصاد على مستوى العالم، كما نجح في الحد من تسلط وهيمنة المؤسسة العسكرية على الحياة المدنية والسياسية للدولة، تلك المقاربة التي تفضح الكثيرين وتكشف الصورة الحقيقية لمدعي البطولة في عالمنا العربي من شأنها ان تكون سببا كافيا ومبررا لكل تلك المليارات التي تستقطع من دم الشعوب ليتم استخدامها في تشويه صورة تركيا وتاريخها خدمة للانقلابيين والديكتاتوريين في العالم العربي.  

ورغم كافة تلك المحاولات فإن تأثير تركيا الإيجابي على الشعوب العربية سيؤدي حتما إلى إحداث تغييرات جذرية داخل المنظومة السياسية في العالم العربي على المدى الطويل، بفضل تطور وسائل الاتصال التي تنقل لهم الصورة الحقيقية دون رتوش لما تقدمه النخبة التركية الحاكمة لبلادها وما يتمتع به مواطنيها من رفاهية رغم المشاكل الاقتصادية التي يتم افتعالها من جانب تلك الجبهة الرافضة لنجاح تركيا بهدف عرقلة مسيرتها ومنع تقدمها.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه