لماذا الشيخ الشعراوي؟

 

 

ظهر قبل الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المتبوعة (أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد) أئمة أعلام تتلمذ أصحاب المذاهب على أيديهم، وبدورهم خرجوا أجيالا من الأئمة والعلماء، لكن بقيت شهرة هؤلاء الأربعة لا تضاهيها شهرة، وكُتب لمذاهبهم من الانتشار والذيوع وتلقي الأمة لها بالقبول مالم يتوفر لغيرها، حتى ظن غير المتخصصين أن المذاهب الفقهية في الديانة الإسلامية أربعة فقط، والحقيقة هي أكثر من أن تحصى…

وهذا يدلل على أن الجمع بين العلم والشهرة محض فضل من الله، وهبة عَلّية من رب البرية، يمن بها على من يشاء من عباده.. فكثير من يُحصل شرف العلم، وقليل من يَنال نعمة الشهرة.

وفي عصرنا الحديث يعتبر فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي من الذين جمعوا بين الأمرين وحاز المنقبتين، حتى صار رمزا للدعوة إلى الله، وارتبط اسمه بتفسير القرآن الكريم من خلال خواطره الإيمانية حول سوره وآياته، وطارت بشهرته الركبان، ووصل صوته كل مكان، وتَحلّق المسلمون بعد صلاة الجمعة حول التلفاز لسماع خواطره الأسبوعية، فجدد في الأمة فضيلة حبس النفس على الدرس، وصبرها على الجلوس لسماع العلم، والعهد قبل ذلك أن هذه الوسائل لا تقدم إلا الهزل.

أول تفسير مصور:

مدّ الله في عُمر الشعراوي حتى أتم تفسير القرآن الكريم كاملا بالصوت والصورة ليصبح صاحب أول تفسير مصور في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وتميز بأن العالم المتخصص يجد فيه نهمته من اللطائف والفرائد، والعامي البسيط يجد فيه بغيته من المعاني والفوائد، وهذا في فن مخاطبة الجماهير يُذكر في باب النوادر ويندرج تحت العجائب!

ولا تتوقف نوادر الشيخ الشعراوي على ميدان العلم وحسب، بل كان له اهتمامه السياسي المبكر حيث انضم في شبابه إلى حزب الوفد لما كان ضمير الأمة، وتعاون مع جماعة الإخوان المسلمين في خطواتها الأولى وهي تحاول جمع المسلمين على قضاياهم الكبرى، وكان أزهريا معتزا بانتسابه إلى الجامع الشريف والصرح المنيف، يأبى أن يُمس جنابه، أو يُعبث في رحابه، أو يُنال من رجاله، ومن ذلك رده عل الرئيس السادات لما تهجم  على الشيخ أحمد المحلاوي (الأزهري الثائر على كل العصور) ووصفه بالكلب في مجلس الشعب -وحاشاه كرم الله وجهه- عندها أرسل الشيخ الشعراوي إلى السادات كتابا جاء فيه: “إن الأزهر الشريف يخرج العلماء، ولا يخرج الكلاب.”

كما كان رحمه الله شخصية اجتماعية من الطراز الفريد يجمع في صحبته ومجلسه بين كل فئات المجتمع على اختلاف مستوياتهم وتخصصاتهم واهتماماتهم،

وكل واحد منهم يظن أنه صاحب الحظوة، وأنه الصديق المقرب والصاحب المفضل، وهذا لا يستطيعه في دنيا الناس إلا الأفراد من ذرية آدم!

إذا أعجبه قماشا:

وكان من عادته -قدس الله روحه ونور الله ضريحه- كما حدثني بعض أصفيائه أنه إذا أعجبه قماشا معينا، أو لونا بعينه اشترى منه لكل خاصته وأحبته، ثم يدعوهم إلى الحائك الخاص ليخيط لهم ثيابا على طريقته التي اشتهر بها وصممها لنفسه، وكان مبدعا في ذلك حتى أصبحت قلنسوته التي افترعها تزاحم عمامة الأزهر، واعتمدها المشايخ إذا تخففوا متشبهين ومتبركين بصورة الشيخ الجليل.

كما أعطاه الله من طيب المعشر، وجميل الأحدوثة، وحضور الطرفة والبديهة، ما يصلح لأن يُكتب ويجمع، وكثيرا ما كانت هذه الابتسامات تتخلل أحاديثه ودروسه، ومنها ما ينقله أحبابه عن مجالسه، ومن ذلك ما قَصه علي أحدهم مما جرى على لسانه، وأدخل به السرور على إخوانه، لكن اشترط عليهم ألا تُروى إلا للمشايخ، ولولا العهد لأتحفتكم بها.

لم يُجْمع المصريون على شخصية دينية كإجماعهم على مولانا الإمام حتى صار مضرب الأمثال (دا عامل فيها الشعراوي؟!) ولو قيل قبل هذا العهد النكد أنه سيأتي اليوم الذي تَنهش فيه الذئاب العاوية سيرة الإمام لقيل هذا ضرب من الخيال.

التوجه العام:

الهجوم على فضيلة الشيخ الشعراوي وإن بدا في صورة زلة لسان إلا أنه يمثل التوجه العام لهز الثقة في مفهوم التدين من خلال إسقاط رموزه، والدليل أنه خلال الأشهر الماضية تكررت نفس الهجمة من إبراهيم عيسى ومفيد فوزي وغيرهما، والسبب أن نظام الحكم الحالي في مصر صورته عسكرية متسلطة أما عقيدته فعلمانية متوحشة، ترى كل من لا ينضوى تحتها، ولا يُسبح بحمدها من خصومها وألد أعدائها ويجب اغتياله !

محاولة إسقاط رمزية الشيخ الشعراوي عند جماهير المسلمين الذين انعقدت قلوبهم على محبته كالهجوم على “البخاري” عند العلماء والمتخصصين، ساحات مختلفة والغاية واحدة.

من الذي يحدد مفهوم التطرف، ومن الذي يَصك به من أراد؟ وآلة الإعلام ومنصات التوجيه في يد مرتزقة العسكر وأبواق السلطان، وعندها لا تستغرب أن يَحكم الماجن على المتعفف، والفاسق على الناسك، والروبيضة التافه على شموس العلم ورموز المعرفة، وقد سبق إلى تصوير ذلك أبو العلاء المعري حيث قال:

إِذَا عَيَّـرَ الطَّائِـيَّ بِالبُخلِ مَـادِرٌ…. وَعَيَّـرَ قِسًّـا بِـالسفَاهَـةِ بَاقِـلُ !

وقَالَ  السُّهَا لِلشَّمسِ أَنْتِ كَسِيفَةٌ….

 وَقَالَ الدُّجَى لِلبَدرِ وَجهُكَ حَائِـلُ !

وَطَاوَلَتِ الأَرضُ السَّمَاءَ سَفَاهَـةً….

 وَفَاخَرَتِ الشُّهبَ الحَصَى وَالجَنَادِلُ !

فَيَا موتُ زُرْ إِنَّ الْحَيَـاةَ ذَمِيمَـةٌ….

 وَيَا نَفسُ جِدِّي إِنَّ دَهرَكِ هَـازِلُ .

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه