للشام جنتان

مر على حصار الغوطة خمس سنوات، تكالب عليها كلّ زناة الأرض وفي مقدمتهم النظام السوري برئاسة المجرم بشّار الأسد وروسيا.

 

كنت صغيرة حين سمعت هذه العبارة من أبي ونحن في طريقنا إلى درعا: “للشام جنتان عن يمين وشمال” جنتا الشام غوطتا دمشق الشرقية والغربية. الغوطة بوابة الجنة على الأرض من رآها عرف ومن عرف آمن ومن شرب من ماء الفيجة أيقن أنّ الكوثر منبعه من الشام.

يقدّس السوريون دمشق؛ لأنّ إبراهيم الخليل عليه السلام ولد في قرية “برزة” في جبل قاسيون التي هي حالياً حي من أحياء دمشق.

وفي حديث صحيح يُروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “رأيت عموداً من نور خرج من تحت رأسي ساطعاً حتّى استقرّ بالشام”.

مر على حصار الغوطة خمس سنوات، تكالب عليها كلّ زناة الأرض وفي مقدمتهم النظام السوري برئاسة المجرم بشّار الأسد وروسيا، أحرق البشر والشجر ودمر البنية التحتية بكلّ أنواع الأسلحة، الكلور والفسفور والنابالم والقذائف المصنعة محلياً مستهدفاً المشافي والمدارس وبيوت المدنيين العزّل، الغوطة التي أطعمت العالم من فاكهتها تعاني الجوع، لا ماء لا كهرباء لا مقومات للحياة، إنّه الموت يحصد أرواح المدنيين وبساتينهم وحجارة بيوتهم.

مع ذلك رسائل الحب والسلام والإيمان تخرج من الغوطة، يصمد أهلها في وجه الجوع والموت والقصف وتكالب المجتمع الدولي لا يملكون سوى إيمانهم بالحديث المروي عن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: “إنّ فسطاط المسلمين يوم الملحمة بالغوطة إلى جانب مدينة يقال لها: دمشق من خير مدائن الشام”.

دمشق التي يطلق عليها السوريون اسم الشام والتي سمّاها العثمانيون في فترة حكمهم “شام شريف”.

أرض المحشر:

يبدو هذا الإصرار على الإبادة الذي يحمل أحقاداً طائفية ومذهبية غير مسبوقة واستشراساً في القتل وكأنّه عملية انتقام ليس فقط من الأكثرية السورية بل ومن الإسلام والمسلمين بعامة، حتّى الهدف الواضح وهو التغيير الديمغرافي الذي يصر عليه النظام بإفراغ الغوطة ومحيط دمشق من أهل الشام الأصليين حرب معلنة يراد بها تكذيب ما جاء من أحاديث يؤمن بها المسلمون جميعاً خاصة ما قاله الرسول عليه الصلاة والسلام: “إنّ الله عز وجل قد تكفّل بالشام وأهله”. لا يريدون لدمشقي أن يبقى في الشام حينها ستكون النظرية الإسلامية فارغة من محتواها..

لأجل ذلك:

لأجل ذلك زرع النظام جبهة النصرة في الشمال والدواعش في الرقة، لأجل حماية “كفريا والفوعة، ولأجل حماية نبّل والزهراء، ولأجل إيقاد نار الفتنة كلّما خمدت ووأد المعارك الفاصلة كلما حصلت واغتيال الشرفاء من القادة وإذكاء نار الصراع بين الفصائل كي لا يتركوا لإحداها مجالاً للتفكير بنصرة الشام وغوطتها. 

 سحب النظام خمسة آلاف مقاتل لحصار الغوطة، أمّا الجولاني فقد بدأ حربه ضدّ جبهة تحرير سوريا في الشمال كي لا يفكر أيّ فصيل بفتح جبهة تساند أهل الغوطة.. المعارك طاحنة في “حزانو” وجبل الزاوية. والأرتال الضخمة خرجت من مخابئها ليس لإعلاء كلمة الله كما يدعون ولكنها نصرة لبشار الأسد.

اليوم خرج الناس في مظاهرات ضدّ الجولاني، ولعلّ هذه المظاهرات تفتح عقول مناصريه ليتيقنوا أنّ هذا الرجل عميل للنظام السوري وهدفه بث الفرقة والقضاء على الثورة. اليوم هو الفصل بالنسبة لرجال الهيئة فإمّا أن يستفيقوا ويصطفوا مع الشعب وإمّا أن يقفوا مع بشار ممثلاً بالجولاني.

قرارات مجلس الأمن:

ما زلت أستغرب من التفاف الناس حول شاشات التلفزيون بانتظار قرارات مجلس الأمن والفيتو الروسي جاهز! تحدث لافروف اليوم عن أنّ الهدنة مرتبطة بالتوافق على الأطراف التي ستشملها، أيّ أنّ الهدنة لم تبدأ بعد! ثانياً الهدنة لا تشمل حلفاء النصرة _الذين هم حلفاء النظام أصلاً_ وذكر بالتحديد جيش الإسلام _الذي لم نرَ منه سوى الكلام منذ بداية الثورة ولم يحرّك ساكناً ولم يدخل معركة فاصلة ضد النظام! لكن هذا الكلام الذي قاله لافروف يعني بقاء الغوطة خارج القرار الدولي وتقدم الروس لتفريغ المنطقة من سكّانها، السيناريو نفسه الذي حدث في حلب!

المضحك أنّ الأمم المتحدة بدأت تحصي الخروقات وهو العمل الوحيد الذي تتقنه، بعدها ستطوي السجل وتتفرّج على مجريات الأحداث على الأرض. يدرك بوتين تماماً أين يضع قدمه، فهو يقطع الطريق على احتمال ضعيف بتدخل أمريكي ويحضّر الضربة القاصمة باستخدام الكيماوي لإفراغ الغوطة نهائياً.

سقوط أخلاقي:

الرعب الذي خلّفه مؤيدو بشار في نفسي بسقوطهم الأخلاقي المدوي يوازي الرعب الذي أشعر به وأنا أشاهد الفيديوهات التي تبث من داخل الغوطة. خاصة المثقفين.. المشكلة أنّي لم أستطع استيعاب ذلك الحقد الذي تشظى فجأة ونثر حممه تجاه الأبرياء.. أين كان هؤلاء يخبئون كل هذا الغل والحقد والكراهية.. هل حقّاً هم بشر؟ وكيف يدعون أنّهم كتاب؟ لم يقتصر الأمر على كتّاب السلطة في سوريا، لم يقتصر الأمر على فئة الشبيحة هذه المرة خرجت لنا روائية أردنية تدعو إلى إبادة الغوطة وقتل أهلها ونسفهم من الوجود! ألم تجد تلك الكاتبة باباً للشهرة غير دعوة القتلة والمجرمين إلى إبادة الغوطة؟

حتّى الرهيفين من مثقفي السلطة ذوي الحس الإنساني الذين يدعون لإفراغ الغوطة من أهلها حفاظا على أرواحهم.. يخدم بدعوته الخبيثة هذا فكرة ربهم بشار في تحقيق التغيير الديمغرافي.

لم يبقَ من أمل سوى الله، بعد تخلي العالم أجمع عن قيمه وأخلاقه.

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه