لسنا عبيد إحسانكم

 

في العام 2019 قال وزير التموين المصري علي مصيلحي «إن الحكومة تنظر لمواطنيها بعين الإحسان»! وقبل هذا التاريخ بـ 138 عاماً وتحديداً في العام 1881 قال الخديوي توفيق لأحمد عرابي أثناء مظاهرة ميدان عابدين «وما أنتم إلا عبيد إحساناتنا»، فكان رد أحمد عرابي «والله الذي لا إله إلا هو سوف لا نورث ولا نستعبد بعد اليوم”

وبصرف النظر عن التدقيق التاريخي أو الحذلقة التاريخية التي ترى أنه كان حديثا وهميا، وبافتراض أن هناك شكاً في أن الخديوي العثماني قال هذه المقولة لعرابي عام 1881م فإنه من المؤكد أن الوزير المصري في حكومة النظام الجمهوري أوضح بمقولته عام 2019م أن العلاقة بين الشعب والحكومة والحاكم علاقة المنتظر للإحسان من المحسن الكريم.

والحقيقة أنني أرى أن الوزير لم يكذب، بل أراه أصدق الموجودين في الحكم فلم يُجّمل الرؤية التي يتعامل بها نظام عبد الفتاح السيسي مع الشعب، وكانت عبارته بمثابة التفسير لكل سياسات الجنرال تجاه الشعب، وبطل العجب الذي كان يحيط بالأمة من خطاب الجنرال المهين والمتعالي على الشعب المصري.

إذا هو اقتناع ورؤية من الطغمة الحاكمة للشعب، وهي رؤية متكررة عبر التاريخ في الدول التي ترزح شعوبها تحت وطأة الاستبداد، هي رؤية الحكم الديكتاتوري للشعوب، ورؤية الحكام المصابين بجنون العظمة العاكس لجهل أو غباء أو ما يطلق عليه المصريين «الهطالة»، وما أبشع استبداد وبطش الجاهل والعبيط والمتخلف.

الحنان الزائف

وبأسلوب الإقطاعيين الذين يديرون الوسايا، تعاملت الحكومة المصرية مع بداية مظاهر غضبة الشعب ومطالبه بالعدالة الاجتماعية والحرية، فبدأت مظاهر الحنان الحكومي في الإعلان عن بعض المنح الرئاسية والحكومية للشعب تتعلق بتخفيض الأسعار والحفاظ على الدعم والتراجع في بعض القرارات الاقتصادية التي أضرت بالطبقات الشعبية، والإفراج عن الشباب والصبيان الذين تم إلقاء القبض عليهم أثناء مسيرات الاحتجاج الأخيرة، وهلل إعلام الدولة لهذه القرارات وكأنها انقلاب في سياسة الحكومة لصالح المواطنين، ووقف رئيس المجلس الشعب غير المؤهل ليعلن في مشهد تمثيلي سخيف وبأسلوب ركيك أن المجلس لن يسمح للحكومة بظلم الشعب ؟

وللتذكرة فقط فإن مجلس الشعب هذا ورئيسه هم الذين تبنوا كل القوانين والقرارات المقيدة للحريات في الفترة الأخيرة وباركوا قرارات الحكومة الخاصة برفع الأسعار والتي يحاولون تقديم الحكومة كبش فداء بسببها، وعلي عبد العال رئيس البرلمان هو الذي غير الدور التاريخي للبرلمان مراقبا على السلطة التنفيذية والحكومة ورئيس الدولة وقال مقولته المشهورة «ولائي بعد الله للسيسي»، وإن كنت أشك في ترتيب الولاء الذي ذكره، والمفارقة أنه لم يصدر أي قرار من الحكومة يتعلق حياة المصريين إلا بعد موافقة مجلس الشعب الذي يتشدق الآن بمعارضته للحكومة والوقوف بجانب الشعب.

أبرز ما يميز هذه المرحلة هو ازدياد وعي المواطن المصري بحيث لم يصبح ضحية سهلة لألاعيب إعلام النظام ورجاله، وهو ما جعله يدرك بيقين أن موجه الحنان الموجهة له ما هي إلا مناورة لاستيعاب غضبه، بتقديم عطايا عينية والاستعراض ببعض مظاهر للحريات، لم تغير من الواقع شيئا فلا إعادة بطاقات التموين المسحوبة ولا تخفيض بعض أسعار السلع ولا الإفراج عن عدد من الشباب المقبوض عليه ولا أي إجراء من هذه الإجراءات الشكلية يعني لدى الشعب الغاضب أنه حصل على حقة، فالشعب بوعيه وتجاربه مدرك أن أزمته الاقتصادية والمعيشية مرتبطة بالأساس بنظام حكم فاشل وعلاقات إنتاج متردية ومنهارة، ومدرك بقوة أن أزمته الاقتصادية مرتبطة أيضا بانهيار منظومة الديمقراطية وضيق مساحة الحريات الحقيقية والتي لن يجدي معها دعاوى إعلام السلطة الزائفة بفتح حوار وهمي مع معارضة كرتونية سيتم إنشاؤها لخلق مشاهد ديمقراطية بلا محتوى، بدليل أن معظم معارضي السلطة مازالوا في السجون ويجدد لهم الحبس حتى الآن.

الحرية أولا

بسذاجة مفرطة يتصور النظام الحاكم أن شعارات رفض الفقر وكشف سياسات التجويع تعني أن غضبة الشعب يمكن السيطرة عليها وحصارها ببعض المنح المعيشية وتخفيض نسبي في الأسعار، وغرور النظام وثقته بجبروته يعمي عينه عن جوهر الحالة المحيطة به وخاصة في ظل وجود طبقة فاسدة محيطة بالنظام من مصلحتها إيهام النظام بالاستقرار طالما مصالحها في صعود، والحقيقة الغائبة دائما عن إدراك النظم الفاشية والمستبدة أن شعارات الجوع والفقر وضيق الأحوال المعيشية ماهي إلا أدلة تسوقها الشعوب الغاضبة على فشل النظام وانهياره وانحيازه ضد مصالح الجماهير والوطن، وبغباء الطغاة يتصور النظام أن هذه حدود مطالب الشعب واحتياجاته، ولا يدرك أن هناك دوافع أكبر وراء غضب الشعب مثل التفريط في استقلال الوطن، والانحياز إلى الفئات المحيطة بدوائر الحكم على حساب بقية الطبقات الشعبية، وانهيار الأمن بشكل متعمد ليحمل الرسالة الأبدية لكل الحكام الفاشيين» إما أنا أو الفوضى»، بالإضافة إلى المرار الناجم عن انهيار القيم الوطنية والثقافية للوطن في العالم وتراجع مكانته بين دول وأقطار كان له الريادة بينها.

وأذكركم بانتفاضة عام 1977 ضد السادات والتي اشتعلت بعد قرارات برفع الأسعار وكانت شعارتها الرئيسية تتعلق بتردي الظروف المعيشية، وتصور النظام بغروره أن الانتفاضة الشعبية ترتبط حدود أسبابها بالظروف المعيشية فتراجع «السادات عن قرارات رفع الأسعار مع بعض التسهيلات الاقتصادية أعقبها هجمة أمنية شرسة وتضييق على الحريات، وتصور النظام أنه استوعب الانتفاضة وقضى عليها من جذورها، ولم يدرك الأساس الحقيقي للانتفاضة وهو رفض المصريين لسياسة الانفتاح الاقتصادي غير المرشد على حساب الصناعة الوطنية وخطوات تحول مصر من دولة منتجة إلى دولة تابعة اقتصاديا، وملاحظة المصريين أن نتائج انتصار أكتوبر (تشرين الأول) 1973 بدأت تتجه للوفاق مع الجانب الأمريكي وتلميحات تشير إلى الميل بحذر تجاه الجانب الصهيوني وهو ما تأكد بعد ذلك في اتفاقية كامب ديفيد بعد الانتفاضة بعام، وكلها تداعيات ومشاهد تتشابه مع ما يحدث الآن ومع التمهيدات لمشروع الشرق الأوسط الكبير الذي هو تطوير أكبر وأعمق لخطوات الاندماج مع العدو الصهيوني والذي بدأ باتفاقية كامب ديفيد عام 1978. ما علينا وليرجع لمرجوعنا لتصور النظام أنه احتوى الانتفاضة الشعبية عام 1977 بقرارات اقتصادية وهمية كمظهر من مظاهر التخفيف على الطبقات الشعبية، وهو التصور الخاطئ حيث استمرت حركة الغضب الجماهيري في تصاعد واشتباك مع التضييق الأمني حتى انتهت عام 1981 باغتيال السادات.

حكم الفرد

المؤكد أن تعبير وزير التموين «النظر للمواطن بعين الإحسان» هو تعبير دقيق يعكس بدقة طبيعة النظام الحاكم الذي ينتمي إلى مدرسة حكم الفرد ويتعالى، بل يرفض بشدة، الحكم المؤسسي الذي يخضع فيه الحاكم لقواعد مؤسسية دستورية تضمن عدم انفراده بالحكم والخروج عن الحدود الدستورية الممنوحة للحاكم، والفرد الحاكم يا سادة حتى لو كان لديه نزوع نحو العدل، أو صاحب مشروعات تنموية تنهض بوطنه، فإن نتائجه النهائية تتجه نحو الانهيار والتدمير، لعدم وجود الضمانات الشعبية والمظلة التي تضمن سير الدولة في مسار مؤسسي بعيدا عن الشطحات والنزوات الفردية.

ومن المظاهر الثابتة المحيطة بالحاكم الفرد المستبد الإحساس بالعظمة والتميز والذي يصل أحيانا إلى تصور امتلاكه قدرات تفوق الطبيعة أو امتلاكه دعما إلهيا، يجعله في غنى عن الشورى أو المشاركة، بل إنه يتحول إلى معادٍ شرس لأي معارض، وهو منطق السيد الذي يرى في الجميع عبيدا له يخضعون لإحساناته أو غضبه.

والمستبد دائما يا سادة غير معني كثيراً بكرامة الوطن أو استقلاله أو الحفاظ على أراضيه، ولا يجد أي حرج في الارتماء في أحضان أعداء وطنه مثلما فعل الخديوي توفيق عام 1882 عندما اصطحب المحتل الإنجليزي أثناء دخوله الإسكندرية في موكب ضخم، وكأنه يزف للمصريين بشرى الاحتلال. وما أشبه اليوم بالبارحة، ولكن الحقيقة الثابتة أننا لسنا عبيد إحسانكم.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه