لابد من لجنة تحقيق في مفاوضات سد النهضة

 

في بيان صحفي مقتضب وهزيل، أعلنت وزارة الخارجية المصرية على صفحتها الرسمية على موقع التواصل الإجتماعي يوم الجمعة 22 مايو/آيار، عن استعداد مصر “الدائم” للانخراط في العملية التفاوضية والعودة للمشاركة في المفاوضات الثلاثية مع السودان وإثيوبيا حول ملء وتشغيل سد النهضة الإثيوبي.

صدر البيان بعد انسحاب اثيوبيا من الجولة الختامية لمفاوضات واشنطن نهاية فبراير/شباط الماضي والتي ترعاها وزارة الخزانة الأمريكية والبنك الدولي منذ السادس من شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وهي المفاوضات التي كان مقررًا لها أن تفضي إلى اتفاق نهائي يحل المسائل العالقة بشأن قواعد ملء وتشغيل سد النهضة في 15 كانون الثاني/ يناير الماضي لولا انسحاب اثيوبيا وميوعة المفاوض المصري واستسلامه للمفاوض الإثيوبي المراوغ.

توقفت المفاوضات لمدة ثلاثة أشهر بفعل التعطيل التكتيكي المتعمد من اثيوبيا لكسب الوقت، ولم يتوقف البناء في سد النهضة للحظة واحدة، وامتنعت في آخر لحظة عن التوقيع على اتفاق واشنطن لكسب مزيد من الوقت لفرض الأمر الواقع، ولتتمكن من فتح باب المفاوضات مرة أخرى بطريقة ماكرة. ورغم تأثير جائحة كورونا على مناحي الحياة وشلها لحركة الأعمال في جميع أنحاء العالم تقريبًا، أعلن رئيس وزراء الإثيوبي، آبي أحمد، أن بلاده سوف تبدأ في ملء خزان سد النهضة في موسم الأمطار المقبل، الذي يأتي في شهر يوليو/تموز، رغم تحدي الجائحة.

تخبط مصري وإصرار إثيوبي

كان من المتوقع، وفق أسس التفاوض المتعارف عليها، أن يطالب المفاوض المصري الوسيط الأمريكي والبنك الدولي بمعاقبة المفاوض الإثيوبي بوقف البناء في السد والإمتناع عن ملء الخزان بسبب إنسحابه من مفاوضات واشنطن وتعطيلها في الأشهر الماضية، والامتناع عن توقيع الاتفاق النهائي الذي وقع عليه الطرف المصري منفردًا.

لكن الجنرال السيسي الذي يعترف بأنه غير سياسي ويجتهد منذ 50 سنة في معرفة معنى الدولة، تجاهل رعاة التفاوض، أو غدروا به، وتنازل عن مطالبتهم بالقيام بدورهم في إثناء اثيوبيا عن قرار ملء السد قبل الاتفاق، وحاول حفظ ماء وجهه أمام شعبه في ظل التنمر الإثيوبي بإبطاء معدلات البناء في السد، وكسب بعض الوقت بما يسمح بإقناع إثيوبيا بالتوقيع على الاتفاق قبل أن تبدأ ملء السد. فقام بإرسال مساعدات طبية خاصة بجائحة كورونا للصين وإيطاليا لاستخدامها كقوة ناعمة للضغط على الشركات الإيطالية والصينية العاملة في السد لكن جهوده باءت بالفشل ربما بسبب سوء تقدير قوته الناعمة وظنه أن يمكن أن يشتري القرار الصيني أو الإيطالي بمساعدات رمزية وبكراتين الكمامات والقفازات.

واستغل رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، ضيق الأفق السياسي للجنرال السيسي وتجاهله رعاة التفاوض وإهانته للولايات المتحدة بعد الإستعانة بالغريم الصيني، عدو ترامب الأول، ورد عليه ببيان شديد اللهجة نقلته وكالة الأنباء الرسمية قال فيه: “نحن نواجه تحديين مهمين خلال هذه الفترة الحاسمة حيث نحتفل بالعام التاسع من بناء سد النهضة، أحدهما وباء فيروس كورونا والآخر هو قضية سد النهضة. ولمواجهة كورونا وإكمال السد، يجب على جميع الإثيوبيين الوقوف كجيش واحد، ويجب ألا نؤخر الاحتفال بالسد بسبب كورونا”.

تجاوز الدراسات الفنية

قامت مفاوضات سد النهضة من البداية على مبدأ وحيد، ألا وهو إنجاز الدراسات الفنية التي قمدمتها إثيوبيا لتثبت من خلالها عدم إضرار السد بالحياة الإقتصادية والإجتماعية والبيئية في مصر، ومن ثم تحصل على موافقة الدولتين على استمرارها في بناء السد، أو تخفيض حجمه وتعديل تصميماته أو إلغائه إذا ثبت عكس الدراسات وتبين إلحاق السد أضرارا جسيمة بدولتي المصب.

بعد إعلان آبي أحمد عن البدء في ملء السد، لم يطالب الجنرال السيسي بالتوقف عن البناء في السد وعدم الإقدام على ملء السد حتى إنجاز الدراسات الفنية الخاصة بعدم الضرر وبأمان السد والمنصوص عليها جميعًا في اتفاق المبادئ الموقع في مارس 2015. فقد نص المبدأ الخامس من الاتفاق على تنفيذ الدراسات الفنية خلال المراحل المختلفة للمشروع. ونص المبدأ الثامن على تنفيذ إثيوبيا التوصيات المتعلقة بأمان السد، وتستخدم الدول الثلاث المخرجات النهائية للدراسات الفنية في الاتفاق على قواعد الملء الأول للسد. وحدد اتفاق المبادئ الإطار الزمني لتنفيذ هذه الدراسات، وهو 15 شهراً، منذ بداية إعداد الدراستين.

وقد اتفقت الدول الثلاث في 21 سبتمبر/أيلول 2016 على تحديد مكتب فرنسي اختارته إثيوبيا بنفسها لإجراء الدراسات. واتفقوا على الإنتهاء من الدراسات خلال 5 أشهر وبحد أقصى 11 شهرًا. وبعد انقضاء مدة الأحد عشر شهرًا بشهرين إضافيين رفضت إثيوبيا في نوفمبر/تشرين ثاني 2017 اعتماد التقرير الإستهلالي الذي أعده المكتب الذي اختارته بنفسها. وهكذا، ضيعت إثيوبيا 18 شهر من عمر المفاوضات في إختيار المكتب الذي سيجري الدراسات، ثم إستفادت من 13 شهر أخرى في إجراء هذه الدراسات، ثم امتنعت في نهاية المطاف عن الإعتراف بها والتوقيع عليها. وفي هذا الشأن لا يمكن إعفاء المفاوض المصري من تهمة التواطؤ مع إثيوبيا وتمكينها من استهلاك سنتين ونصف من عمر المفاوضات في تمثيلية سخيفة.

وقد كان من حق المفاوض المصري، بل من الواجب عليه، استغلال مماطلة إثيوبيا في اختيار المكتب ثم رفضها التوقيع على الدراسات بعد إنجازها والإلتزام بتنفيذ مخرجاتها مبررًا كافيًا للانسحاب من اتفاق المبادئ ووقف المفاوضات العبثية ورفع الأزمة إلى مجلس الأمن، وليس الإستمرار في مفاوضات تمكنها من فرض الأمر الواقع، ومن الحصول على شرعية بناء السد الذي يهدد حق المصريين في المياه والحياة.

وقد اعترف السيسي صراحة، في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/أيلول الماضي، بأنه “تفهّم شروع إثيوبيا في بناء سد النهضة رغم عدم إجرائها دراسات وافية حول آثار المشروع الضخم بما يراعي عدم الإضرار بالمصالح المائية لدول المصبّ ومنها مصر”، وهو اعتراف يثبت التواطؤ في المفاوضات العبثية والتقصير في حماية حقوق مصر المائية.

لجنة تحقيق عاجلة

في الأنظمة السياسية الديمقراطية، من المعتاد تشكيل لجان تحقيق محايدة بعد كل أزمة أو كارثة، لتقف على الأسباب التي أدت إليها، وتكشف عن المقصرين لمحاسبتهم وإقصائهم عن مواقع المسؤولية. والمثال الشهير، هو لجنة التحقيق التي شكلتها إسرائيل بعد هزيمتها في حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، برئاسة رئيس العدل، شيمون أجرانات، قبل أقل من شهر من توقف الحرب، لتحديد المسؤولية السياسية للحكومة عن كارثة الهزيمة، والمسؤولية العسكرية للجيش. وقدمت اللجنة تقريرها الذي هز أركان الحكومة وقدمت رئيسة الحكومة، جولدا مائير، استقالتها واختفت من المسرح السياسي للأبد.

أما المثال القريب، فهو اللجنة التي شكلتها بريطانيا للتحقيق في مشاركة رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير الولايات المتحدة في عهد الرئيس السابق، جورج بوش الإبن، في غزو العراق والإطاحة بنظام الرئيس صدام حسين، والمعروفة بلجنة تشيلكوت نسبة إلى رئيسها القاضي، السير جون تشيلكوت، والتي دانت فيها حكومة بلير وقالت أنها تسرعت في قرار الحرب وتأييد الولايات المتحدة دون بصيرة، رغم غياب الأدلة الجادة على امتلاك صدام حسين أسلحة دمار شامل ورغم معارضة معظم أعضاء مجلس الأمن التدخل العسكري. وقدم بلير اعتذار للشعب البريطاني وأعلن تحمله مسؤولية قرار المشاركة في الغزو كاملًا.

وفي أزمة سد النهضة والمفاوضات العبثية المستمرة منذ 2014 دون سقف زمني، فإن تشكيل لجنة تحقيق وتقصي حقائق تكشف للشعب الذي يعتمد كليا على نهر النيل ما دار في هذه المفاوضات خلال قرابة عقد من الزمان، وأسباب استسلام المفاوض المصري لإثيوبيا طوال هذه السنوات حتى كادت أن تنتهي من بناء السد دون إنجاز اتفاق يضمن عدم إلحاق إثيوبيا الضرر بمصر.

ذلك أن دستور 2014 قد نص في المادة 44 منه على أن تلتزم الدولة بحماية نهر النيل والحفاظ على حقوق مصر التاريخية المتعلقة به، “ومنع الاعتداء عليه” وفق دستور 2012.

لجنة التحقيق باتت ملحة قبل العودة مجددًا إلى المفاوضات العبثية. ومنذ سنوات دق أجراس الخطر وزراء وقادة مسسؤولون في القوات المسلحة وقادة رأي مخضرمين. وكتب الأستاذ فهمي هويدي مقالًا بعنوان، أزمة معلومات، في جريدة الشروق الموالية للنظام بتاريخ 6 أكتوبر 2015 قال فيه أن مصدرا مسئولا بوزارة الرى أعلن عن أنه تم إبلاغ القيادة السياسية بعدم جدوى اجتماعات سد النهضة، وأن العنوان الرئيسى للصفحة الأولى بالجريدة في يوم 4 أكتوبر حمل نفس المعنى.

إنهم يقدرون الأمن المائي المصري، ويدركون أهمية نهر النيل لشعب وصل تعداده إلى 100 مليون نسمة، ولديه عجز مائي يصل إلى 30 مليار متر مكعب يعوضه بإعادة استخدام 8 مليار متر مكعب من مياه الصرف الزراعي والصحي في الشرب وري المحاصيل، ويستوردون 40% من غذائهم بفاتورة تتكلف 12 مليار دولار سنويًا.

وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2017، طالب الفريق سامي عنان وهو أحد أبناء القوات المسلحة ورئيس أركان الجيش الأسبق، بكشف الحقائق أمام الشعب وبمحاسبة المقصرين، وكتب بيانا على صفحته في “فيسبوك” قال فيه: “إن الحكومة فشلت فشلاً ذريعاً في إدارة ملف سد النهضة، فشل يصل إلى حد الخطيئة، بدأ منذ أن وقّعت مصر على إعلان الخرطوم في مارس/ آذار عام 2015. يجب محاسبة كل مَن أوصلنا إلى هذا الوضع الكارثي المهين، ويجب إعلام الشعب بكافة الأمور بشفافية كاملة، وعلى الدولة أن تعلن أن كل الخيارات متاحة للدفاع عن الأمن القومي لمصر وحقوقها التاريخية في مياه النيل”.

 

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه