كيف تواجه تركيا معضلة الشمال السوري؟

 

يبدو أننا أمام مشهد من مشاهد التاريخ المعادة، مع اختلاف بعض التفاصيل الجزئية التي لن تؤثر كثيرا في الصورة الكلية، فالاستعمار الذي اجتمعت كلمته نهايات القرن التاسع عشر في ضرورة تفكيك الدولة العثمانية للقضاء على الدولة الإسلامية الجامعة، تمهيدا لإعادة هندسة المنطقة كمقدمة لزرع الكيان الصهيوني فيها، يستمر اليوم في محاولاته لتفتيت المفتت، لضمان أمن واستقرار إسرائيل، وتمرير صفقة القرن، وذلك بإعادة هندسة المنطقة جغرافيا وبشريا على أسس مذهبية وطائفية، وقد حقق نجاحات في بعض الدول كالعراق وسوريا واليمن وليبيا، التي باتت تعاني من تماسك هش وغير حقيقي. فيما تقف تركيا بمفردها تصارع وتكافح المؤامرات، التي تطرق أبواب الأناضول بعنف!

في قصة التجزئة الأولى، كافح السلطان عبد الحميد لأكثر من ثلاثين عاما حتى يحول بين الدولة وبين سقوطها، لكنهم تكالبوا عليه وأسقطوه لتبدأ رحلة التقسيم التي لم تتوقف حتى اليوم.

ففي كتابه المهم “السلطان عبد الحميد والرقص مع الذئاب” شرح المؤرخ التركي/ مصطفى أرمغان كيف بذل آخر الحكام العثمانيين الفعليين جهودا خرافية للحفاظ على الدولة في مواجهة جميع القوى التي كانت متربصة بالدولة آنذاك للانقضاض عليها متى سنحت الفرصة.

واليوم تجد تركيا نفسها مضطرة مرة أخرى للرقص مع الذئاب حفاظا على وحدة أراضيها وأمنها القومي، خاصة وأن الذئاب الرابضة على حدودها الجنوبية لا ينتمون إلى جبهة واحدة فهناك الولايات المتحدة وروسيا إضافة إلى السعودية والإمارات ومصر والنظام السوري، والقفاز المتمثل في تنظيم بي كا كا الإرهابي وفرعه السوري مليشيات الحماية الكردية.

اليوم يطالعون شبح عبد الحميد، في شخص رجب طيب أردوغان، الذين دبروا له العديد من محاولات الانقلاب للتخلص منه لكنها جميعا باءت بالفشل، وإن لم تنتهِ حتى اللحظة، في قصة ليس هنا مجال تفصيلها.

فما يهم الآن كيف ستواجه تركيا تلك الأخطار التي تجمعت في الشمال السوري وأجبرتها على التعامل مع الذئب الروسي في إدلب ونواحيها تارة، ومع الذئب الأمريكي في شرق الفرات تارة أخرى، لاحتواء تلك التهديدات الاستراتيجية بالغة الخطورة والوصول إلى تفتيتها والقضاء عليها.

شرق الفرات..بيدي لا بيد عمرو

في الاجتماع الموسع مع رؤساء أفرع حزب “العدالة والتنمية”، قال أردوغان في لغة لا ينقصها الحزم: “مصممون على البدء فعليا بإنشاء المنطقة الآمنة شرق الفرات بسوريا وفق الطريقة التي نريدها، حتى الأسبوع الأخير من شهر سبتمبر/أيلول”.

هذه اللهجة الصارمة عكست حالة الضجر التي تنتاب أنقرة نتيجة المماطلات الأمريكية في معالجة مخاوفها الأمنية المشروعة على حدودها الجنوبية.

لم تكن كلمة أردوغان هي الأولى فقبلها بحوالي يومين وخلال حفل تخريج دفعة جديدة من طلبة الكلية البحرية العسكرية أعلن أردوغان، أن تركيا ستدخل إلى شرق الفرات خلال أسبوعين أو ثلاثة، إن لم تفِ الولايات المتحدة بتعهداتها المتعلقة بإنشاء المنطقة الآمنة.

التصريحات الرسمية التركية تزامنت مع تشكيل غرفة العمليات المشتركة التي استهلت عملها في ولاية شانلي أوروفا جنوب شرقي تركيا بمشاركة مسؤولين عسكريين أتراك وأمريكان.

القلق التركي لم يكن من فراغ، فإدارة الرئيس السابق باراك أوباما سبق وأن أبرمت تفاهمات مماثلة بشأن سحب المليشيات الكردية من مدينة منبج بريف حلب الشمالي، إلى شرق الفرات، وهو الأمر الذي لم يحدث حتى الآن.

وجاءت إدارة الرئيس الحالي دونالد ترمب، لتزيد من حجم الدعم العسكري الذي تمنحه لمليشيا الوحدات الكردية، فوفق مسؤولين أتراك فإن واشنطن لا تزال تمنح دعمها لتلك المليشيا بسخاء، دون أي اعتبار لتركيا التي تعد الحليف العسكري الأكبر لواشنطن داخل حلف الناتو.

قلق تركيا نابع أيضا من عدم الاتفاق على التفاصيل حتى الآن، وفي التفاصيل يكمن الشيطان كما يقال، فوفق آخر تصريحات أردوغان فإن الاتفاق المبدئي مع ترمب يقضي بأن يكون عمق المنطقة قرابة عشرين ميلا، أي حوالي اثنين وثلاثين كيلومترا، هذا العمق يكاد يلامس الاحتياج التركي، الذي يصر على أن يكون عمق المنطقة الآمنة من 35 إلى 40 كيلومترا، لكن وبالرغم من ذلك فإن تركيا لا تزال تنظر إلى تلك الوعود بعين الشك والريبة لعلمها أن ترمب قد يتجاوز تلك الوعود المبدئية ولا ينفذ منها شيئاً نتيجة الاختلافات الواضحة بين البيت الأبيض والمؤسسات الأخرى ذات الصلة والتي ظهرت في العديد من الملفات الدولية.

ومن هنا فإن احتمالية تنفيذ أنقرة عملية عسكرية شرقي الفرات بمفردها تتزايد يوما بعد الآخر، في ظل دفعها المتواصل بحشود عسكرية هائلة إلى منطقة الحدود السورية وخاصة في الجهة المقابلة لعين العرب (كوباني) وتل أبيض وغيرهما والتي من المتوقع أن تبدأ من عندهما الحملة العسكرية على شرقي الفرات.

هدف أنقرة من إنشاء المنطقة الآمنة، لا يقتصر فقط على النواحي الأمنية بإبعاد التنظيمات الإرهابية عن منطقة الحدود، بل ينضم إليه هدف إعادة توطين اللاجئين السوريين، إذ أعلن أردوغان أن هدف بلاده توطين ما لا يقل عن مليون شخص من السوريين في المنطقة الآمنة، التي سيتم تشكيلها على طول 450 كم من الحدود مع سوريا.

فملف اللاجئين السوريين بات يشكل صداعاً مزمنا لأنقرة، خاصة عقب الخسارة الكبيرة التي مني بها حزب العدالة والتنمية في انتخابات بلدية إسطنبول، والتي لعب الوجود الكثيف للاجئين (السوريين وغيرهم) داخل المدينة الأهم في تركيا دورا كبيرا في تلك الخسارة، وهو ما أدى إلى مجموعة من التدابير مازالت تعمل عليها الجهات المعنية، لحرمان المعارضة من تلك الورقة التي أجادت استغلالها في الانتخابات المحلية، وذلك قبل حلول الانتخابات الرئاسية والبرلمانية عام 2023 كما هو مقرر.

إدلب..هل يصمد اتفاق خفض التصعيد؟

في 4 مايو 2017 توصلت كل من تركيا وروسيا وإيران إلى اتفاق “خفض التصعيد، والذي يقضي بخفض مستوى العنف، وتحسين المستوى الإنساني، وبذل الجهد للوصول إلى التسوية السياسية وذلك في المناطق التالية:

–  محافظة إدلب وأجزاء معينة من المحافظات المجاورة (اللاذقية، حماة، وحلب)

– مناطق معينة من شمال محافظة حمص.

– الغوطة الشرقية.

– مناطق معيّنة من جنوب سوريا (محافظتي درعا والقنيطرة).

هذا الاتفاق تم تعزيزه وتأكيده باتفاق سوتشي في سبتمبر 2018، والذي يعد مخرجا للقمة التي جمعت الرئيسين التركي رجب طيب أردوغان، والروسي فلاديمير بوتين، في منتجع سوتشي الروسي

لكن الملاحظ أن روسيا لم تحترم الاتفاقيات وواصلت قصفها لتلك المناطق، بمعاونة النظام السوري، الذي لا يملك في الحقيقة قرار الحرب أو السلام، ما أدى إلى قضم مناطق خفض التصعيد منطقة وراء الأخرى، حتى وصلت قوات النظام السوري، إلى تخوم إدلب وتمكنت من الاستيلاء على بلدات استراتيجية كخان شيخون، وواصلت القصف المكثف على إدلب ونواحيها ما أدى إلى تجدد موجات النزوح صوب الحدود السورية التركية، ما دفع تركيا إلى التلويح بفتح باب الهجرة إلى أوربا، وأعلن فؤاد أوكتاي نائب الرئيس التركي، أن بلاده ليست “مستودعا لتخزين البشر”.

التصعيد الروسي-السوري تجاه إدلب، حمل أردوغان على التوجه إلى موسكو للقاء بوتين في 28 أغسطس الماضي، وهو اللقاء الذي تمخض عن إعلان روسيا التزام النظام السوري بوقف إطلاق النار.

ومن هنا يتضح أن الاستراتيجية التركية تجاه التعامل مع ملف إدلب اعتمدت على الركائز التالية:

  • استغلال العلاقات مع روسيا والمصالح الاقتصادية وصفقات الأسلحة “منظومة إس 400 الدفاعية”، إضافة إلى العلاقات المتميزة بين أردوغان وبوتين، للضغط على موسكو لوقف العدوان على إدلب.
  • تعزيز الوجود العسكري التركي في نواحي إدلب، والذي يعرف بنقاط المراقبة، وذلك رغم تعرضه للقصف مؤخرا دون وقوع إصابات، إلا أن أنقرة أصرت على تسيير دورياتها، وحذرت النظام السوري من تكرار القصف، وذلك قبل زيارة أردوغان الأخيرة إلى موسكو، وعقب القمة أكد الرئيس التركي أن نظيره الروسي تعهد له بضمان أمن وسلامة القوات التركية في شمال سوريا.
  • الضغط على أوربا لدفعها لإيقاف الحملة العسكرية على إدلب، وذلك بالتلويح بفتح باب الهجرة إلى القارة العجوز، حيث طالب فؤاد أوكتاي، نائب الرئيس التركي، العواصم الأوربية بضرورة التعامل بجدية مع حديث أردوغان عن فتح باب الهجرة صوب القارة من جديد، مؤكدا أن ذلك الحديث ليس مجرد تهديدات جوفاء، ما أدى إلى مسارعة بعض الدول الأوربية للمطالبة بضرورة وقف هجمات النظام السوري وحلفائه على إدلب.

وهكذا فإن الشمال السوري بات يمثل معضلة حقيقة، فتركيا لا تواجه مجموعة من الميليشيات المسلحة، أو النظام السوري المتهالك، بل تواجه في الواقع الولايات المتحدة وروسيا معا رغم اختلاف أجندة كل منهما، لكنهما يتفقان على ضرورة وقف الصعود التركي، والحيلولة دون استمرار أنقرة قوةً إقليميةً مؤثرةً.

  

 

  

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه