كيف تحولك ألمانيا لأرنب!

 

لقد كان ذلك الأرنب ذو البزة السوداء والساعة المثبتة إلى خصره بسلسلة، هو من جعل أليس تهوى في جحره العميق، لتدخل بلاد العجائب. لقد كان مستعجلا دوما، لا يفتأ ينظر لساعته كل هنيهة، ليصرخ في رعب: “لقد تأخرت.. لقد تأخرت” مثيرا عجب أليس، فما الذي تأخر عنه هذا الأرنب؟ ولم يبدُ الوقت لديه قصيرا جدا؟

أنا والوقت قبل “بلاد العجائب”:

ومنذ وطئت قدمي الأرض الألمانية وأنا عالقة في عجب أليس ذاته، ولا أرى الألمان من حولي إلا كأرانب مستعجلة بعيون ملونة وساعات مثبتة بالسلاسل إلى خصورهم ومعاصمهم وأعناقهم، وهم يصرخون: “لقد تأخرنا.. لقد تأخرنا”..

لقد كان جحرا من العتمة والارتباك هذا الذي سقطت فيه هنا في ألمانيا، أنا التي لم يكن الوقت بالنسبة لي إلا بعدا آخر لعالم مواز، لا يتقاطع مع عالمي إلا في الأحداث الكبيرة، كرأس السنة، ورمضان، والعيدين، وعيد ميلادي ربما. أوقات قصيرة جدا من السنة تمنحني ترف التأمل في معجزة الوقت، وفي جريانه السريع من بين يدي، دون أن يثير ذلك قلقي إلا بالحد الأدنى، فقد كنت أملك اللحظة التي أعيشها، وكنت سيدتها، أخطط لها كما أريد، أو أنني أعيشها بلا أي تخطيط، منساقة وراء مزاجي المتقلب ورغباتي اللحظية.

فماذا يعني تنظيم الوقت بالنسبة لي، إنه نكتة مضحكة، أمسك وأنا أضحك عليها خواصري الحرة من أي سلاسل أو ساعات، وماذا يعني وضع خطة زمنية لتحقيق هدف ما؟ هذا موجود فقط في كتب التنمية البشرية التي لا بد أن مؤلفيها كذابون كبار؟ وماذا يعني أن تتصل صديقتي لتعرض علي مشوارا فوريا في قلب معمعة امتحانات؟ هذا يعني أن أقول “نعم”، وأن أؤجل التفكير في المهام المتراكمة إلى ما بعد المثلجات. وماذا تعني دفاتر التقويم الجلدية التي توزعها شركة أبي على العاملين فيه، فتشعل بيني وبين أخوتي حربا ضروسا، تنتهي في غالب السنوات بأن أحصل عليها أنا؟ هذا يعني أن أجعلها دفترا لمذكراتي الخالية من أي نكهة زمنية، والتي تتخطى منذ الأسبوع الأول من السنة عتبة شهر آذار، دون أن آبه للتواريخ التي تعلو الصفحات كحواجب مرفوعة في وجوه مندهشة. كان على الساعات والأيام أن تمضي من جواري كما تريد على رؤوس أصابعها، دون أن تحدث بمرورها أية جلبة تزعجني، وكان عليها أن تتركني أحسب الوقت بطريقتي البدائية، كغياب الشمس وشروقها، كموعد مسلسل المساء، كإزهار شجرة المشمش وسقوط أوراقها الصفراء، وكل ما عدا ذلك هراء رياضي سخيف.

الوقت في “بلاد العجائب”:

والآن.. لقد تغير كل شيء. لقد دخلت أرض العجائب، أرض الأرانب المستعجلة، والساعات التي تتكتك في كل مكتب، ومخططات السنة المعلقة خلف كل موظف، والرسائل التي تتدفق من صندوق بريدي كل أسبوع، تنتصب فيها المواعيد المفصلة بخط ثخين في المنتصف، لتشوش نظري، وتذكرني بعمق الجحر الذي سقطت فيه.

كان الأمر أشبه بتعذيب حقيقي، فكل ما في هذا البلد يصر على سحبي من سرير غفوتي الزمنية، ليدفعني إلى حواف مسننات لا تتوقف عن الحركة، فترغمني على الركض على إيقاعها الرتيب.

فجأة صار لأيام الأسبوع أسماء حقيقة يستخدمها الناس، وفجأة أدركت أنني مرغمة على حفظ أسماء الأشهر وترتيبها الذي لم أحفظه يوما، وفجأة صرت أعرف الفرق بين ساعات منتصف الليل ومنتصف النهار، وصرت مجبرة على إجراء العمليات الحسابية لمعرفة الوقت، في ذلك النظام المعقد، الذي قد تكون الساعة فيها 17 أو 20 أو 23! وفجأة صرت أعرف أن باص الساعة العاشرة ودقيقتين يحملني إلى مكان مختلف عن باص العاشرة ودقيقة… يا للفظاعة؟؟

ثم اشتريت المفكرة:

 ما الذي حل بعالمي الجميل، الذي كانت الساعات فيه تذوب على الأغصان والأرائك والبلاط المنقش، كما في اللوحات السريالية؟ ما الذي حل بطريقتي القديمة في توقيت الأشياء حسب مسلسل المساء أو موسم المشمش؟ لقد ذهبت إلى الأبد.

لكنني لم أدرك ذلك إلا بعد مرحلة طويلة من المقاومة والإنكار، كنت أستعين فيها على مواعيدي بمنبهات الهاتف، وبلصق الرسائل على الثلاجة، وبالطلب اللحوح الذي كان يكرهه الجميع “ذكروني.. ذكروني”..

كنت مؤمنة أنني قادرة على أن أعيش في المنتصف، بين عالمين زمنيين مختلفين، فلا بأس بأن أراعي المواعيد بطريقة ما، ولكنني لن أسمح بأن يثبت أحدهم إلى خصري ساعة، ولا أن ينبت لي أذنان بيضاوان طويلتان، لأتحول مثلهم إلى أرنب مستعجل.

ولقد استمرت مقاومتي هذه ثلاث سنوات، كنت لا أزال فيها في مرحلة انتظار الإقامة ثم تعلم اللغة، إلى أن دخلت سوق العمل الألماني المخيف في مطلع 2019، فوجدت نفسي فجأة معلقة من قبة قميصي إلى عقارب ساعة عملاقة، تهزني مع كل تكة من تكاتها، ووجدت رسائل البريد الالكتروني، ومواعيد الاجتماعات، والتاريخ النهائي لتسليم المهمات، ومهل تقديم الأوراق الناقصة لمصلحة الضرائب، وتذكيرات شركة التأمين الصحي، وتحويلات البنك الشهرية، ومواعيد الأطباء التي تقذف لما بعد خمسة أشهر، ومخططات عطل السنة القادمة… كل هذه المواعيد تمطر علي من كل حدب وصوب، وتجرفني بعيدا جدا في الجحر، لأرسو عند أول محل قرطاسية، حيث وجدت نفسي أشتري رغما عني مفكرة للسنة الجديدة، لا لأكتب عليها يومياتي العابثة، بل لأرص على سطورها مواعيدي التي لا تحصى، والتي لم تعد ذاكرتي ولا باب ثلاجتي يسعفانني لتذكرها.

خسرت اللحظة وملكت المستقبل:

ألقي نظرة الآن على مخطط السنة المصلوب بالدبابيس فوق طاولتي، وحول أيامه دوائر وملاحظات، ثم ألقي نظرة على مفكرة 2019 خاصتي، وقد شارفت على الامتلاء. أستطيع بتصفحها استعادة سنتي كلها بأدق أحداثها، فكل شيء مكتوب ههنا، ليس مواعيدي فحسب، بل حتى مهماتي الصغيرة التي كنت أخصصها لكل يوم. أما اقتراحات المشاوير الفجائية مع الصديقات، فقد صار عليها أن تنتظر شهرا أو شهرين، ريثما أجد لها سطرا فارغا في مفكرتي، وأوقاتُ إجازتي بت أسلمها لمديري قبل عدة أشهر، وقبل عدة أشهر أيضا نحدد معا موعدا لاجتماع ما، لمناقشة أمر ما، دون أن يثير ذلك استغرابي، بل صار يغيظني جدا أن يحاول أحدهم تحديد موعد معي قبل أقل من شهر من التخطيط لذلك.

تستطيعون أن تقولوا إنني حصلت بشكل أو بآخر على ساعة مربوطة إلى خصري، وأنني تحولت بطريقة ما إلى أرنب مستعجل، أو دعونا نقول “نصف أرنب”، فلم تنبت لي إلا أذن واحدة فقط، وبين كل هرولة وهرولة إلى مواعيدي، لا أزال أتوقف قليلا، لأعيش لحظات من الفوضى القديمة اللذيذة، سرعان ما أقطعها لأتابع الركض وأنا أصرخ “لقد تأخرت.. لقد تأخرت”. نعم، في غالب الأحيان لم أعد أملك لحظتي، لكنني ويا للعجب، شعرت فجأة أنني أملك مستقبلي.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه